البعد الإنساني والأخلاقي في السياسة الخارجية التركية

فادي فراسين
أنقرة
نشر في 29.05.2016 00:00
آخر تحديث في 29.05.2016 12:15
البعد الإنساني والأخلاقي في السياسة الخارجية التركية

استضافت تركيا القمة الإنسانية الأولى في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من أيار/ مايو في مدينة اسطنبول. إن هذه الإستضافة تدل على أهمية البعد الإنساني والاخلاقي في السياسة الخارجية التركية

تمرّ الإنسانية حاليًا بأسوأ حالات المعاناة وأقساها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فرغبة الشعوب في الكرامة والديمقراطية قد تم سحقها في أنحاء الشرق الأوسط وغيرها من بقاع العالم، و كذلك قرر العالم أن يغض الطرف عن الأعمال الوحشية وجرائم الحرب التي تُرتكب ضد الفلسطينيين وسكان ولاية راخين في دولة ميانمار. وبدلاً من وقوف القوى الغربية مدافعةً عن الأخلاق والقيم الإنسانية وحماية المستضعفين والمضطهدين، قررت تلك القوى أن تتعامل مع الأخلاق والسياسة بمكيالين. وفي هذا الواقع الرديء والمظلم، نشهد ظهور سياسة خارجية تركية تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان والفضيلة والعدالة، وهي سياسية خارجية تمنح شعوب المنطقة والعالم أجمع بصيص أمل ووعداً بالخلاص.

لطالما كانت تركيا تمثل رأس الحربة في مواجهة النظام العالمي الظالم الذي يكمن ظلمه في صميم تكوينه الذي يسمح لأي دولة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بطمس إرادة أمم الأرض قاطبة لا لشيء إلا خدمة لمصالحها القومية والأنانية. ولهذا لقيت عبارة السيد رجب طيب أردوغان "العالم أكبر من خمسة" ترحيباً واسعاً وترددت أصداؤها بين الجماهير في جميع أنحاء المعمورة وأصبحت الشعار الذي تتبناه الشعوب التي تنادي بإصلاح منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها لتكون أكثر ديمقراطية وعدالة وشمولية. ولم تكن عبارة "العالم أكبر من خمسة" هي الموقف الوحيد الذي أثار عواطف الشعوب في جميع أنحاء العالم، بل أيضاً حادثة "One Minute!" في مؤتمر دافوس و التي سجل فيها السيد رجب طيب أردوغان موقفاً بطولياً هزّ العالم وأيقظ الضمير العالمي الذي كان يغط في سبات عميق. فقد أدان أردوغان بشجاعة العدوان الإسرائيلي البشع على غزة في ديسمبر/كانون أول 2008 – يناير/كانون ثاني 2009 ووبخ إسرائيل ورئيسها وقتئذٍ شمعون بيريز على تصرفها كآلة لقتل الأطفال. وبعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013 والذي أطاح بالرئيس المصري الوحيد المنتخب بشكل ديمقراطي، محمد مرسي، وتعليق الدستور المصري، أثبتت تركيا مرة أخرى أنها صوت الديمقراطية والحرية في العالم. فقد أدانت تركيا الانقلاب العسكري وما زالت تنتقده حتى يومنا هذا، بينما نرى القوى الغربية التي تتغنى بقيم الديمقراطية قولاً لا فعلاً تتحيّن الفرص للتعامل مع الانقلابيين وترحب بقائد الانقلاب العسكري المشير عبد الفتاح السيسي في عواصمها، وتبرم صفقات الأسلحة مع الجيش المصري. ودفاع تركيا عن حقوق الإنسان وإدانة واستنكار العدوان العسكري لا يقتصر على المنطقة المجاورة لها فحسب، بل يشمل جميع أرجاء العالم. فقد انتقدت تركيا العدوان الروسي ضد جورجيا (2008) وأوكرانيا وضمها لجزيرة القرم بالقوة وبشكل غير شرعي (2014). وما انفكت تركيا تدين- وإن كان هذا يأخذ طابعاً حذراً- انتهاك الصين لحقوق المسلمين اليوغور في تركستان الشرقية.

كما لعبت تركيا وما زالت دوراً ريادياً في نشر الوئام وتعميق التفاهم بين الحضارات العالمية المتنوعة، وتبادر إلى رأب الصدع بينها من خلال إزالة حواجز الشكوك والخوف والتوتر التي تراكمت من بداية هذه الألفية بين العالم الإسلامي والغرب. ففي عام 2005، أطلقت تركيا بالشراكة مع إسبانيا مبادرة تحالف الحضارات في مسعىً منها لحشد تحالف واسع لتعزيز قيم التسامح والتفاهم عبر الثقافات والحضارات. وقد تبنت الأمانة العامة للأمم المتحدة هذه المبادرة لاحقاً لتصبح مبادرة خاصة بالأمم المتحدة.

قبل مدة ليس بطويلة، كانت تركيا من بين الدول التي تستقبل المساعدات الإنسانية الدولية، لكن هذا الحال تغير تماماً منذ اعتلاء حزب العدالة و التنمية سدّة الحكم عام 2002 لتصبح تركيا منذ ذلك الوقت دولة مانحة رئيسية للمساعدات الإنسانية الدولية. وحسب تقرير برنامج المساعدة الإنسانية العالمية ((GHA لعام 2015، جاءت تركيا بمرتبة ثالث أكبر مانح دولي من حيث حجم المساعدات التي قدمتها، وثاني أكبر دولة مانحة من حيث نسبة الدخل القومي الإجمالي عند أخذ استجابتها لأزمة اللاجئين السوريين بعين الاعتبار. وكانت تركيا قد استجابت لكثير من الكوارث والأزمات الإنسانية التي نشأت في مختلف أنحاء العالم، لكن أبرز تلك المساهمات الإنسانية كانت في الصومال ومن خلال تواجدها المباشر على الأرض في الوقت الذي غابت فيه دول رئيسية عن المشهد. وما زال الشعب الصومالي يتذكر بإعجاب كبير ذلك اليوم الصيفي في شهر أغسطس/آب 2011 الذي تجاهل فيه السيد رجب طيب أردوغان التحذيرات بكون العاصمة الصومالية مقديشيو منطقة خطرة يجب عدم التوجه إليها ليسافر إليها بصحبة زوجته وابنته وكبار المسؤولين ووفد ضخم ضمّ ممثلين عن مؤسسات غير حكومية ورجال أعمال لينهي بذلك الموقف فترة عقدين من الزمن لم يقم أي زعيم غير أفريقي خلالهما بزيارة العاصمة الصومالية.

وفي مستعرض تعاملها مع أزمة اللاجئين السوريين، قدمت تركيا للعالم أجمع درساً في السياسة الأخلاقية والإنسانية. فقد استضافت مليونين وسبعمائة وخمسين ألف لاجئ سوري، حسب إحصائية المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لتكون الدولة المضيفة الأضخم للاجئين على مستوى العالم على الرغم من الثمن الاقتصادي والاجتماعي والأمني الباهظ الذي عليها تكبدّه. و عند مقارنة موقف تركيا هذا مع موقف الاتحاد الأوروبي بدوله الأعضاء الـ 28، نرى أن الاتحاد الأوروبي ترنح تحت وطأة استقبال مليون لاجئ سوري في العام الفائت ولم يدخر جهدًا لتصدير ذلك العبء إلى دول أخرى ليتنصل من مسؤوليته القانونية والأخلاقية تجاه شعب فرّ من ويلات الحرب والعنف. ومن الجدير أيضاً ملاحظة أن سياسة المساعدة الإنسانية الخارجية التي تتبناها تركيا لا تقتصر على جيرانها أو العالم الإسلامي فحسب، بل تشمل جميع العرقيات والأديان والطوائف دون أي تمييز وتغطي مناطق بعيدة مثل الفلبين وغيرها الكثير من المناطق.

السياسة الأخلاقية التي تتبناها تركيا تمثل تباينا كبيراً عن السياسات الميكافيلية (الانتهازية) المنتشرة في العلاقات الدولية. كما أنها تشكل مصدر إلهام للدول الأخرى لتأسيس سياستها الخارجية على القيم الأخلاقية والإنسانية. فلو اقتدت الدول الأخرى بتركيا في هذا الصدد، فإنه يمكننا أن نتطلع إلى عالم يتميز بالوئام والسلام والتعايش المشترك.