حلب.. من حلبة مصارعة إلى علبة كرتونية

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 06.01.2017 00:00
آخر تحديث في 06.01.2017 14:35
حلب.. من حلبة مصارعة إلى علبة كرتونية

حلب، كيف السبيل إلى عهدك الأول، كيف لنا أن نعيدك إلينا فنراك كما كنت دائما؛ عروسة الشام ومصدرا للحب والإلهام. كيف لنا أن نراك مرة أخرى على أرض الواقع أجمل نقطة تنبثق منها الحياة

مدينة اكتفت بحروف ثلاثة لتلقب نفسها، حلب، إلا أن الرقم نفسه لم يكن كافيا لعدّ الكم الهائل من المعالم التاريخية المتربعة على أتربتها من الحدود إلى الحدود. المدينة والعاصمة للكثير من الحضارات السابقة؛ الآشورية مثلا، والفارسية، والبيزنطية، والرومانية ودون منازع الحضارة الإسلامية. إنها القطعة الفريدة على وجه الأرض التي حملت إلينا عبر آثارها جزءاً هاماً من تاريخ البشرية فباتت مرجعا دائما تشهد اللبنات المغروسة فيها على كل الأحداث الغابرة. إنها الرمز الحيوي الدائم منذ آلاف العصور حتى الآن.. أوبالأحرى حتى الزمن القريب جدا من "الآن".

تفضل بكتابة هذه الحروف القليلة على أي محرك بحث تشاء وانتظر النتائج، انتظر الصور التي حتما ستبهرك، لأن فنان العصر الملقب بـ "الحرب" آثر أن يغني لوحاته بالكثير من الرمادي والترابي. آثر أن يحول المدينة إلى أطلال، تغطي قطعها المتساقطة هنا وهناك أجساد البشر، وأن يجعل منها منطقة ذات رمزية أخرى لم يفصح عنها بعد.

اكتب "حلب" مثلا على محرك البحث غوغل، اكتب الكلمة باللغة التي تشاء، وبالنية التي تحويها جوارحك... صدقني ستقضي ساعات وساعات محاولا فرز بقايا المعالم بعضها عن بعض، إذ لم يعد هناك أثر لأي شيء على الإطلاق؛ لا المساجد ولا القلاع ولا المدارس التعليمية، لا شيء حافظ ولوعلى القليل مما كان يميزه. الأسواق الشعبية القديمة ليست في مكانها والطرق المؤدية إليها فقدت من الخريطة. بل لا خريطة يمكن رسمها على الركام، فكل الجزئيات التي كانت تنتعش بألوان الحياة انصهرت، تلاشت.. وصار الرمادي البار، المنطلق من صلب الخراب يتبختر في كل الأجواء ويرمي بثوبه على اتساع ذراعيه.

هل نجحت المساعي الدولية في الحفاظ على أسطورة طريق الحرير، على نقطة الانتعاش التجاري في بلاد الشام. بل أبسط من ذلك، هل تمكنت من الحفاظ على البوابات الحلبية الكبيرة أو المعالم الأخرى التي أدرجتها اليونسكو سابقا ـ كونها فريدة من نوعهاـ ضمن لائحة التراث العالمي، التي لا يجب المساس بها إلا بإذن من الجهات العالمية المهتمة بالآثار.. أم أن الحرب فعلا لا تستأذن أحدا لتحول أقدم المدن المأهولة في العالم إلى مجرد رماد، إلى خبر كان..

كان يا مكان في قديم الزمان .. كانت هناك في بلاد الشام مدينة مليئة بالألوان ومليئة بالحياة تسمى حلب.. كان يقصدها البشر من كل جهة ومن كل صوب. دار الزمان وخان البشر المكان.. اختفت الألوان وبانت ملامح الحياة المنتهية.. في هذا العصر وهذا الأوان.

صحيح أن الحرب أو"الثورة ليست حفل عشاء أو كتابة مقال أو رسم لوحة أو عمل تطريز" كما قال الزعيم الصيني السابق ماوتسي تونغ... لكنها دون شك، تنتهي بواحدة مما ذكر. فكم هي كثيرة الروايات والأعمال الأدبية التي ولدت من قلب الحروب، وكم هي كثيرة قصائد الشعر التي يدونها الشعراء خلف القضبان وخارجها في رثاء الأجساد الضائعة. وكم هي الأفلام الوثائقية والأعمال الدرامية التي تحاكي بقصتها تفاصيل حقيقية معاشة، يفوق الألم الذي فيها مجرد الخيال.

وفي هذا الصدد، كنت منذ أيام قد شاهدت واحدا من أجمل الأفلام القصيرة التي تناولت مدينة حلب وما يجري فيها حاليا من أحداث كموضوع لها. الفلم كان من فئة الرسوم المتحركة بعنوان"The Box"، وتعود التفاصيل التي تناولها السيناريو وكذا التقنيات المتبعة في الإخراج إلى التركية الموهوبة "مروة تشريش أوغلوتشتور". الطالبة التي حوّلت موضوع تخرجها في إحدى الجامعات البريطانية (University of the Arts London) إلى مشروع إنساني، إلى فلم كارتوني يحكي واقع أمة أُخرجت من منازلها وهُجرت من أراضيها. ورغم الدقائق القليلة التي حركت خلالها "مروة" صورها الملونة، إلا أنها نجحت وبشكل بارز في إيصال الفكرة كاملة، بتفاصيل متسلسلة متناغمة ينسجم معها المشاهد من أول لقطة إلى آخرها.

بدأت أحداث الفلم في منزل لعائلة حلبية؛ أب وأم وطفل وحيد يدعى بلال. في الوقت الذي كان بلال يلون مع قطته "ليمونة" منزلهما الجديد المصنوع من علبة كرتونية، كان الناس في الخارج وككل المدن الهنية، يحتفلون بمناسبة ربما وطنية. وكان صوت الألعاب النارية يبعث في الطفل بلال حماسة أكثر لينهي علبته ويتخذ منها مع طيّعته ليمونة منزلا وهميا. ينامان على صوت المتفجرات والألعاب النارية ليستيقظا على صوت الرصاص والقنابل الحقيقية.

يدرك بلال بعد زمن لا بأس به من الدهشة والرعب أنه فقد أهله، وأنه ـ بأعجوبة ـ بقي على قيد الحياة في مكان يشبه المخيم. يضع منزله، بعد طيّه، تحت إبطه وينطلق سريعا مع ليمونة محاولا الخروج من ذلك المخيم. يظل راكضا إلى أن يصل الحدود؛ المكان الشاحب الخالي، يخيل إليه أنه الجدار لكنه في الحقيقة شيء يشبه إلى حد ما الجدار، المصنوع من الأسلاك. يقطع بلال أميالا مع قطته، وفي العراء ينال منه الجوع، والتعب والحزن.. يتخيل والدته تارة ووالده تارة أخرى، يعتقد أنهما عادا إليه، ثم سرعان ما يدرك وحدته ومدى تورطه بالعلبة التي معه. يحاول مرة أخرى حملها بشكل مناسب ويرمي بخطواته الثقيلة إلى حيث لا يعلم.. إلى أن يصل إلى الشاطئ الذي يرى فيه فجأة بر الأمان.. فيبدأ مع قطته بصنع قارب من العلبة نفسها.. وحين ترفض القطة الذهاب معه يدفع بنفسه وحيدا إلى أمواج البحر.

بمثل هذه الأعمال نجعل للوجع الإنساني صوتا يُسمع في كل مكان. بل لعل الفن الهادف يحقق يوما ما التغيير، فيصبح وسيلة ترتفع بنا نحن البشر إلى مراتب عليا، وتذهب بنا إلى مواطن أخرى تُفرض فيها أخلاقيات مغايرة لما هومتوافر حاليا، أخلاقيات تمنعنا مثلا من الاقتحام، ومن التعدي على الآخر ومن سلب الحياة ـ دون سبب - من أصحابها، كما كان الحال في حلب.

حلب، كيف السبيل إلى عهدك الأول، كيف لنا أن نعيدك إلينا فنراك كما كنت دائما؛ عروسة الشام ومصدرا للحب والإلهام. كيف لنا أن نراك مرة أخرى على أرض الواقع أجمل نقطة تنبثق منها الحياة. نتحدى بك، لنجدك أنت؛ الوطن الحقيقي العامر، لا مجرد سرد بين صفحات الكتب ولا مجرد نغم يحلي أبيات القصيد.. لا رسوم متحركة تبرز ألوانها معالمك ولا حتى لوحة طرزت حوافها بخيط الحرير. حلب، ادفني الحرب سريعا في مكان بعيد وعودي إلينا بألف سلام.