لماذا اسطنبول..

ديلي صباح
سميحة خليفة
نشر في 14.07.2016 00:00
آخر تحديث في 14.07.2016 12:08
لماذا اسطنبول..

هل تريد فعلا أن تشعر برعشة الحياة؟ اجمع أمتعتك وانطلق إلى عاصمة الجمال الأبدية، اسطنبول.

الهجرة، الكلمة الغارقة في القدم والتي جعلت منا شهوداً على أعمار وألوان من بني البشر تغادر أوطانها، ترحل وتختفي لأسباب لا حصر لها؛ منهم من فضل التخلي عنها بكل ما تحويه من روحانيات سعياً وراء مفهومه الخاص للحرية، السعادة والحياة الرغيدة. ومنهم من غادر مرغماً بسبب صراعات لا تطاق؛ صراع الفكر، المذهب، المال والأهم من ذلك صراع النفس مع النفس. ومنهم من هو مثلي؛ يغادر لأنه ببساطة لا يرى في الحدود الجغرافية قضية ولا تهمه فكرة الإنتماء إلى وطن قدر ما تهمه فكرة الإنتماء إلى التراب.

فلننظر مثلاً إلى أوروبا، تلك الألماسة الفريدة من نوعها ـكما يُعتقدـ والتي تجذب يوما بعد يوم جيلاً أخراً من الشباب. سرعان ما تطفو الخيبة على سطح عواصمها، فحين تصطدم كل المعطيات ببعضها ويكبر الفارق بين واقع الأشياء وخيالها يكتشفون حقيقة سرابها المغري.

وإن كنت لا تحبذ أن تستيقظ ذات يوم على آمال قد تحولت إلى مجرد حلم فاسد، غيّر وجهتك نحو الأراضي العثمانية واختر لك عاصمة مثل اسطنبول كنقطة لانطلاقة جديدة أكثر جدية وأكثر حميمية. الأمر لا يحتاج إلى مقارنة حتى، إذ من هي كل المدن الأوروبية أمام مدينة كاسطنبول؟

إنها المدينة الغارقة في القدم، الغارقة في الجمال والأصالة، الغارقة في الحب؛ حب البشر للبشر وحب البشر للإله. إنها المدينة التي تأخذ بيدك إلى حيث الحلم، في طريق مستقيم يبسط لك على يمينه ما تحتاجه من حضارة وعلى يساره ما تحتاجه من طاعة. حينما تدخل اسطنبول يمتلأ خاطرك أول ما يمتلئ برائحة المساجد، المشهورة منها (كالمسجد الأزرق أو السلطان أحمد، آيا صوفيا، مهرماه سلطان، يني جامع، السليمانية...) والصغيرة الصغيرة التي تعثر عليها صدفة بين الشوارع الضيقة وأنت في طريقك إلى حيثما شئت (كمسجد شمسي باشا وسانكي يدم ...) ولكل مسجد من هذه المساجد وغيرها قصة تجذبك حتى النهاية.

اسطنبول، وكما هي معروفة بطرفيها الأوروبي والأسيوي، تشعرك فعلاً بازدواجية الحضارة فيها، يكفيك أن تقرر لحظة الانتقال من طرفها الأسيوي إلى الأوروبي أو العكس، إذ لن تدرك حينها الزمكانية التي تعيشها فانشغالك بجمال الطبيعة الأخّاذ يكفيك لتنقطع عن الحياة مدة الرحلة كلها سواء انتقيت في عبورك وسيلة نقل برية أوبحرية.

إن كنت فعلاً تريد التعرف على حقيقة مدينة ما فانظر إليها بعد المغيب. كأنما تنظر إلى تفاصيل هدية قبل تغليفها، فترى فيها الميزات والعيوب. وهنا، مرة أخرى، تبرز أصالة المدينة العثمانية بين ناظريك؛ وأنت تدخل مغيبها ثم ليلها ثم أول الزمن من صباحاتها بشيء من الصفاء، الأمن والهناء. قدم لنفسك خدمة واجعلها ولو لمرة تراقب حركة المكان عند الغروب؛ تراقب المصلي مغادراً مسجد حارته والطالب مغادراً أقرب مكتبة من منزله، تراقب الباعة الذين يغلقون محلاتهم على عجل للانصراف إلى فنجان شاي آخر مع الأسرة، فالأتراك -دون جدلـ من ذلك الجنس الذي يقدس فكرة لمَّة العائلة وما يليها من العلاقات الاجتماعية الأخرى. ثم قدم لنفسك فرصة أخرى واجعلها تراقب الحياة عند أول الصباح؛ تراقب الموظف يسابق بخطواته الزمن ليلتحق بأول حافلة إلى عمله، تراقب أصحاب الدكاكين الذين يباشرون فجرهم بتثاؤب، بهدوء ونظرات اطمئنان. تراقب النوافذ تنفتح هذه تلوالأخرى لاستقبال النسمات الأولى من فجر جديد. ببساطة إنك في مدينة اسمها اسطنبول، تلك هي الحقيقة وأما الباقي فمجرد كذبة.

مثل هذه المدن، عبر التاريخ، تظل أمانة بين أيادي أهاليها وحكامها، فتجد من يسهر للحفاظ عليها من خلال قوانين يسميها الدستور، كما تجد من يقضي الليل داعياً خالقه علّ الغاية نفسها تتحقق.

مدينة مثل اسطنبول في دولة مثل تركيا، مهما صار فيها من شغب أو ذكر عنها من أكاذيب وخرافات، ستظل المكان الآمن المبارك عبر كل الأزمنة... ادخلوها آمنين فإن أهلها من طينة طيبة لن تأتيكم منهم أذية. أما إذا أردنا أن نتحدث عن حكامها، فيكفينا أن نتذكر قصة ملك الحبشة، النجاشي أصحمة، حينما قال عنه الرسول الكريم: "إنه الملك الذي لا يظلم عنده أحد".