لقد تحول البحر الابيض المتوسط، أو ما كان يعرف باسم "بحرنا" باللغة اللاتينية، الى "بحر الموت". ففي كل يوم، تحمل القوارب المطاطية مئات المهاجرين الى أوروبا. فيغرق بعضهم ويصل البعض الى وجهاتهم. الوضع رهيب جداً الى درجة أن لا أحد يعلم أعداد الواصلين الى السواحل الأوروبية. كما لا يعرف أحد أعداد الذين هلكوا في البحر. تقديرات أعداد اللاجئين يمكن الحصول عليها فقط عندما يبدأ هؤلاء اللاجئين اتخاذ طريقهم من الجزر اليونانية الى أطراف أوروبا الوسطى.
وقد تحولت عمليات تهريب المهاجرين من الشرق الأوسط الى أوروبا الى مهنة. وتترواح أسعار التهريب، ما بين ألفي يورو الى عشرين ألفا، على حسب طبيعة القارب الناقل. فالبعض يستأجر يخوتا فخمة، أو حتى دراجات مائية، فيما يضطر البعض لخوض غباب البحر باستخدام قوارب صغيرة. كما يعمل العديد من رجال الأعمال من تركيا واليونان وايطاليا والعديد من دول العالم العربي في هذا النوع من الأعمال الإجرامية. ولا تستطيع الدول التأقلم مع المسألة. فالاتحاد الأوروبي، الفخور دائما بسياساته الشفافة والمتقدمة، يقف عاجزا أمام هذه الهجرات الجماعية للاجئين. وفي هذه الأجواء، تحاول دول الاتحاد الأوروبي، أن تضع لنفسها خططا وطنية للتعامل مع المسألة مما يهمش من دور الاتحاد الأوروبي. فالعديد من انجازات الاتحاد الأوروبي، ومنها نظام منطقة الشينغن المفتوح بلا حدود، يبقى اليوم عرضة للانهيار. ونظرا لغياب الديناميكيات اللازمة لحل هذ المسألة في المؤسسات الأوروبية، تقوم الدول الأعضاء في الاتحاد بالتصرف بطريقة تشكل دوامة من انعدام الثقة، ربما سيستحيل تجاوزها.
الخلاصة البسيطة للمسألة، هي ذاتها التي تمثل السبب الذي دفعنا باتجاه هذه الأزمة، والتي يخشى الاتحاد الأوروبي ثمنها أو يحاول تعويض ذلك بالخلاص منها. يجب علينا أن نحدد بدقة ووضوح طبيعة الأزمة التي تواجهنا. فالفاجعة التي نراها من حولنا ليست أزمة لجوء. بل هي الأزمة السورية. الاتحاد الأوروبي يواجه تداعيات الأزمة السورية، وليس مجرد أزمة لجوء بسيطة. فمنذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، ترك أربعة ملايين سوري بلادهم بحثا عن ملجأ آخر. وفي البداية، قصد السوريون حدود بلادهم مع دول الجوار، وانتظروا هناك أملا في العودة الى بلادهم في وقت قريب. لكن بعد أن رأوا الجرائم بحق المدنين تستمر بلا هوادة، بدأوا رحلتهم الى الغرب. والآن، يخطط ملايين السوريون لحياة جديدة في شمال أمريكا أو غرب أووربا. وإن قارننا أعداد اللاجئين الحالية، بما قد يأتي في المستقبل، نجد أنفسنا نتحدث عن النزر اليسير. فالملايين ينتظرون دورهم للهجرة غربا.
وسائل الأعلام الغربية مليئة بالقصص المأساوية، وأحيانا الرومنسية، حول الرحلات التي يقوم بها هؤلاء اليائسون، بينما يختبئ السياسيون خلف هذه القصص للهروب من الحقائق.
فقد تصدرت حكاية مدرب كرة القدم، أسامة عبد المحسن، والمصورة المجرية، بترا لاسزلو، عناوين الأخبار لفترة ليست بالقصيرة. وكتبت مئات المقالات والمواضيع حول الطفل السوري إيلان الكردي، ذي الثلاث أعوام، والذي وجدت جثته على شاطئ مدينة بودروم. النخب الأوروبية عبرت عن حزنها العميق وقالت لشعوبها أنه لا بد من فعل شيء ما. إلا أن التركيز لم يكن منصبا على أصل المشكلة، بل على تبعاتها. فالقيادات الأوروبية تساوم اليوم حول أعداد اللاجئين التي ستستقبلها. إلا أنهم كارهون للاعتراف بأن الأزمة السورية كمثل البركان، الذي سيشعل النار التي تقضي على الأخضر واليابس في المنطقة.
القادة الأوروبيون يخدعون أنفسهم إن ظنوا أنهم بهذا الشكل ينأون بأنفسهم عن دفع الثمن الحقيقي للأزمة السورية. ففشلهم في خطاب الثمن الحقيقي للأزمة اليوم، سوف يجعلهم يدفعون أثمانا مضاعفة في المستقبل. ودعوات تركيا المتكررة للتوصل الى حل شامل للأزمة لم يلقَ حتى الآن آذانا صاغية من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.
فقط عندما أصبح تنظيم الدولة (داعش) خطرا مباشرا، قررت الولايات المتحدة أن تتحرك. واتبعت الولايات المتحدة استراتيجية ضد تنظيم الدولة، تتجاهل عن قصد نظام الأسد، الذي قتل مئات الآلاف من الأبرياء، وكان السبب الأساسي في الأزمة السورية. هذه الاستراتيجية تسببت في تفاقم العنف، بدلا من القضاء على تنظيم الدولة. إدارة الولايات المتحدة التي قالت قبل أربع سنوات أن أيام الأسد باتت معدودة، تتبنى اليوم الرأي القائل بأن بقاء الأسد سيدوم طويلا. ويبدو أن الولايات المتحدة لا ترى حاجة للعجلة في تخليص المنطقة من خطر الأسد.
فالولايات المتحدة لا ترى إشكالية في وجود نظام الأسد، الذي يقتل المدنيين ويصدر الفوضى الى المنطقة. والدول أعضاء الاتحاد الأوروبي يرون أن المشكلة تكمن في محاولات اللاجئين اللجوء الى بلادهم. وكلاهما غير راغب في تعريف الأزمة بشكلها الحقيقي ومواجهة حقائقها. ثمة حاجة لوضع الحقائق على الطاولة، في الوقت الذي يجتمع فيه قادة العالم في نيويورك لحضور افتتاح جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة. ليس هناك أزمة تنظيم الدولة (داعش)، ولا أزمة لاجئين. يوجد فقط الأزمة السورية المدمرة.