"المشرقيون" في تركيا.. جزء من الفسيفساء الثقافية التركية العريقة

ديلي صباح ووكالات
إسطنبول
نشر في 30.01.2019 00:00
آخر تحديث في 30.01.2019 16:05
نساء مشرقيات يحضرن طعاماً تراثياً أرشيف- الأناضول نساء "مشرقيات" يحضرن طعاماً تراثياً (أرشيف- الأناضول)

يعتبر أحفاد الأوروبيين الذين هاجروا إلى الأراضي العثمانية منذ عدة قرون، أحد أهم أجزاء الفسيفساء الثقافية في تركيا، ونظراً إلى تناقص أعدادهم، هم يعملون جاهدين للحفاظ على ثقافتهم لأجل الأجيال القادمة.

يطلق اسم "المشرقيون" على الأوروبيين الذين استقروا في الأراضي العثمانية -ومعظمهم من البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين- للمشاركة في التجارة، خاصة بعد عصر التنظيمات، وفقا للمصادر التاريخية.

وقد استقرت مئات الآلاف من هذه العائلات في الأراضي العثمانية، وكان يشار إليهم باسم "ليفانتس" وتعني المشرق. وصل المشرقيون إلى إسطنبول وأزمير في فترة ما بين القرن السادس عشر والثامن عشر. وشاركوا في التبادل الثقافي بشكل كبير مع السكان المحليين في تركيا.

ولهؤلاء المشرقيين ثقافة لا مثيل لها في العالم، لذلك تراهم يعملون على إبقائها حية من خلال فن المسرح والكتب وفنون الطهي والرياضة.

لم يشارك المشرقيون، الذين ازدادت أعدادهم بسرعة، خاصة في إزمير، في التجارة فحسب، بل قاموا بتنظيم أول العروض المسرحية في الأناضول، وأسسوا أول فريق كرة قدم، ولعبوا التنس، وأقاموا الصداقات، بل فتحوا قصورهم في إزمير أمام مصطفى كمال أتاتورك في أعقاب تحرير المدينة من الغزو اليوناني عام 1922.

المشرقيون، نسبة إلى "أهل المشرق" في الغرب وإلى "الغربيبن" في الشرق، وهم حسب البعض "العالقون بين الطرفين"، أصبحوا أمثلة حية للتوليف الثقافي في الهندسة المعمارية والفن والرياضة والتجارة.

ومع ذلك، انخفض عددهم في إزمير مع مرور الوقت إلى ما دون العشرة آلاف، وذلك بسبب الأجيال الشابة التي تفضل الزواج من الأتراك أو اختيار العيش في بلدان أخرى.

وقد وصل عددهم في إزمير حالياً إلى أقل من 300 شخص، يتكلمون اللغة التركية بلهجاتهم الفريدة ولكنهم يعرفون أيضًا ثلاث لغات على الأقل.

واليوم نرى العائلات الأخيرة المتبقية منهم، والتي لا تريد لتركيا أن تخسرمظهراً آخر من مظاهرها الثقافية الفريدة، تستمر في تنظيم المسرحيات، ولعب كرة القدم، وتأليف الكتب، وإخبار الآخرين أنهم "عاشوا في هذه الأراضي لقرون" بهدف نقل ثقافتهم إلى الأجيال القادمة.

لا مكان كالوطن:

"بيتر بابي"، البالغ من العمر ثمانين عاماً، وهو رئيس جمعية إزمير المشرقية من أصل إيطالي، قال إنهم قد أسسوا الجمعية للالتقاء وتذكّر الأيام القديمة، والحفاظ على عادات وثقافة المشرقيين ونقلها للأجيال القادمة.

وقال "بابي" إن الجمعية تحافظ أيضًا على الوثائق التاريخية والصور الفوتوغرافية التي كانت ملكاً لمشرقيين وافتهم المنية. وعلّق على ذلك قائلاً: "لكن الأجيال الشابة ليست متحمسة جدا لوراثة هذا التراث".

وأضاف "هناك مشرقيون يعيشون أيضا في إسطنبول واسكندرون ومرسين، لكن بأعداد صغيرة. أنا لا أعرف ما إذا كان المشرقيون قد اختاروا إزمير أو إن إزميراختارتهم. أعتقد أنهم اختاروا بعضهم البعض وكانوا راضين بهذا الاختيار. ففي العهد العثماني، كانت إزمير مكانًا يستطيع فيه القادمون من الخارج التواصل والتكيف بسهولة. لقد كانت إزمير بوابة الشرق للغرب. أنا أعتبر نفسي ابن إزمير".

جذور في الأناضول:

"أوغو براغيوتي"، البالغ من العمر 65 عاماً، وهو أحد مؤسسي مسرح إزمير المشرقي للهواة، قال إن ثقافة المسرح في إزمير بدأها المشرقيون الذين اعتادوا قراءة المسرحيات الفرنسية بلغتها الأصلية.

"نحن في الواقع أتراك. ولدت في تركيا. لكنني أيضاً تعايشت مع الثقافة الإيطالية لأنها بقيت حية في بيوتنا. إذا سألتني عما إذا كنت إيطالياً فلا يمكنني القول نعم، لأن 50 بالمائة أو أكثر من هويتي تركية، لكنني لست تركياً بالكامل أيضا".

"مارغري براغيوتي"، وهي ابنة لأبٍ إنجليزي وأمٍ إيطالية، ولدت في إزمير قبل 76 عامًا. وقد صرحت "مارغري" أنها لم تشعر أبدًا كأجنبية في تركيا أما أبناؤها فقد نشؤوا كأتراك. وأضافت "إذا سألتني من أين أنا، فستكون إجابتي أنا من إزمير. وطالما أن إزمير موجودة في تركيا، فأنا تركية. بدون أزمير، لا أشعر بنفسي ولا أعرفها. فمثلاً أنا أجنبية في إسطنبول".

ثقافة فريدة من نوعها:

"إنغريد براغيوتي" قالت إنهم فخورون بكونهم جزءًا من الفسيفساء الثقافية التركية. وكانت "براغيوتي" قد قامت مع زملائها من المشرقيين بكتابة كتاب بعنوان "وصفات تقليدية للمطبخ المشرقي".

وقالت براغيوتي: "لقد استغرق الأمر ثلاث سنوات"، مضيفةً "بعض وصفاتنا تعود إلى 400-500 عامًا. لقد تركت جداتنا وأمهاتنا وصفات رومانية مكتوبة باللاتينية. إنها ذات قيمة ثقافية كبيرة ويجب ألا تندثر."

وشدّدت "براغيوتي" على أن المشرقيين ابتكروا مأكولات جديدة هي مزيج من المأكولات الأوروبية والتركية، وأن بعضها قد تكيّف مع المنتجات الزراعية للمنطقة أو تم استبدال المحتويات الأصلية بالمحتويات المحلية. والكثير من تلك المأكولات، مثل "بريزولاكيا" و"كوفتيدس" و"بيتا" سوف تنتقل إلى الأجيال القادمة.

إدخال لعبة كرة القدم لإزمير:

تحدث "جوليانو"، وهو رجل أعمال من أصل إيطالي، عن قصة حياته في تركيا ومغامراته مع كرة القدم. وقال إن المشرقيين هم من جلب كرة القدم إلى تركيا.

"كانت عائلتي -جيرود و ويتال- أول من لعب كرة القدم هنا. كانت رياضة جميلة ومحبوبة وبالتالي انتشرت بسرعة. كرة القدم رياضة هامة جداً بالنسبة لنا. لقد لعب جدي كرة القدم، وكذلك أبي، والآن نلعب نحن ونعمل على إبقاء روح المشرقيين حيةً في كرة القدم".

وأضاف "جوليانو" أن أول فريق لكرة القدم المشرقي تأسس عام 1910 في إزمير وقد أخذ اسمه من البطل الشعبي الإيطالي غاريبالدي. لكن ذلك الفريق تم إيقافه بناءاً على أوامر القنصلية الإيطالية بعد هزيمته 0-10 أمام فريق "ألتاي" لكرة القدم. لكنه أشار في تتمة حديثه إلى أن مغامرة كرة القدم استمرت مع فرق مختلفة، وقال إن لاعبين مشرقيين شهيرين مثل "إدوين" و"جو كلارك" لعبوا مع الفرق التركية، لا سيما مع فريق "ألتاي".

وأكد "جوليانو" إنه ما زال يلعب كرة القدم في فريق "أزوري"، وأن الأجيال الشابة تلعب في فريق يسمى "ليفانت يونايتيد" ولكن نظرا لأعدادهم المتضائلة، فإن الفريق لا يتألف بالكامل من اللاعبين المشرقيين.

التاريخ في كل خطوة:

"بريان جيراد" قال إن أسلافه قد جاؤوا إلى إزمير قبل الثورة الفرنسية وأنهم كانوا يعملون في التجارة. وقال إن قصرهم في "بورنوفا" استُخدم كأحد مقرات الجيش التركي خلال حرب الاستقلال التركية.

"لقد تم استخدام هذا المنزل في ذلك الوقت كمقر عسكري من قبل كبار قادة الجيش التركي. وتوجد صور لأشخاص مهمين تم التقاطها لهم أمام القصر في تلك الفترة".

وأضاف بأنه توجد صور لأتاتورك وهو يمشي في إحدى شرفات القصر. في دلالة على أنه قد زار هذا المكان بالفعل.