أعطني حريتي أطلق مسامعي...

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 06.10.2016 00:00
آخر تحديث في 06.10.2016 15:53
أعطني حريتي أطلق مسامعي...

هز رأسك بنعم حتى إن لم تفقه ما تقوله شاكيرا.. عكس ذلك أنت لست بفرد يستحق لقب الـ"كووول".

إنها آخر الدقائق قبل دخولك فترة الظُهر، حتما صرت تدرك حقيقة بدنك المتعَب بعد صباح طويل محشوّ بالأشغال والنوايا. تعتقد أنك بحاجة لارتشاف فنجان قهوة أو تناول طبق شهي، وفجأة تدرك أنك غارق في الحنين وبحاجة إلى فسحة سريعة إلى الزمن القديم، حيث هي هناك "حوّاء الجميع". ترتخي إلى الخلف أول ما تجلس، وتبدأ برحلتك الزمنية باحثاً عنها بين طيات الذاكرة. تراها تلوح فجأة من زاوية ما، إنها تماما كما تركتها في أول العمر؛ مبتسمة، رقيقة، تضج بالحيوية والأهم من ذلك أنك تجدها مليئة بالأصالة والإنسانية... وحين تختفي عنوة مرة أخرى تدرك أن رحلتك إليها لم تنته بعد فتستمر في الرحيل نحو الماضي سنة بعد سنة.

تندفع نحو الدار مختصراً في داخلك المسافات الفاصلة، وقفزاً تُخلّف الأرصفة بَعدك رصيفاً رصيفاً، كطفل صغير يعود سعيداً من عند بقال الحي بعلبة سجائر لوالده وقطعة سكر قاسية، ترتطم تارة بأسنانه وأخرى بجدران فمه. تجد أن رائحة القرنفل والزعفران عند الباب في انتظارك، وبأناملها تسحب حاستك نحو مطبخ الوالدة، إنك حتما تقف هناك يوم الجمعة؛ يوم طبختها المشهورة "الأرز الأصفر بلحم الخروف". لكن قبل ذلك وأنت تصعد الدرجات الثلاثة التي تفصل البيت عن الفناء الخارجي تلوح إلى مسامعك دندنة خفيفة، رغم أنك لا تعقل كلماتها من ذلك البُعد إلا أنها تصلك طيبة الريتم... إنها الأغنية الدائمة التي كبرتَ وأنت تسمعها بصوت أمك، المغني الأفضل على الإطلاق.

ـ "أعطني حريتي أطلق يدايا.. إنني أعطيت ما استبقيت شيئا"

سرعان ما تستقيم في وقفتك ـ بسبب الإنزعاج ـ لتغلف نافذة المكتب، حيث تتحامق على صفاء ماضيك كلمات الأغاني المنبعثة بصوت عالي من سيارات مراهقين إلى الأبد أوأقل بقليل.. إلى أرذل العمر.

ـ "وان تو ثري وان تو ثري.." ، "إنت معلم وأنا منك.." ، "هيا وهاذي..." ، "فاير فاير فاير..." "باص غازا عشقم..." ، "دانس دانس دانس دانس دانس..." .

أغاني تروح وأخرى تأتي بأبجديات مختلفة، بحد لا متناهي من اللغات. لكن، لماذا قد تغلق نافذتك لتمنع هذا النوع من الأصوات من العبور إلى مسامعك؟ لماذا قد تنزعج من الريتم الجديد الذي يناديك إلى الحياة؟

سأخبرك لماذا: لأنك شخص قديم ومتخلف، عينك لا تستطيع أن ترى نور الحضارة. بل إنك شخص حسود حقود يغار من الناس ومن طريقة عيشهم، حين يركبون السيارات الفاخرة دون سقف وحين يرفعون أصوات موسيقاهم عاليا. أنت تغار من التحضر لأنك شخص يحتاج الكثير ليواكب الزمن، أنت شخص كبسولة زمنه لا تحسن إلا أن تعود به إلى الخلف.

يا أخي خذ مني خلاصة الأمر؛ لن يُعجب بك من تخالفه في ذوقه، ومن تقول له أن هذا النوع من الموسيقى ليس فيه من الجمال ما يُعشَق.. سرعان ما يراك شيخا بدماغ عفن الأفكار وضيق الممرات. كيف لك أن تقف عكس التيار الذي يسوق أجيالا كثيرة نحومسار يسمى " التحضر". من أنت لتنتقد مغنيا يبيع سنويا آلاف الأسطوانات وينظم مئات الحفلات تتقاتل من أجل الحصول على تذاكرها كتل من بني البشر. أنت لا تملك الحق في اضعاف دخله الفردي المبني أساسا على جيبك، وبالتالي هتك اقتصاد الأمة بتهجمك على أغنية متمدنة، يملك صاحبها حسابا بسيطا على التويتر إلا أن نصف الكرة الأرضية تتعقبه، تناصره وتصنع منه أسطورة.

يا عزيزي أنت لا تستطيع أن تذكر ـ ولوـ سيئة واحدة عن الأمر. أنت فعلا استثناء فلا أحد مثلك يرى خللا في المنتوج الإباحي الذي تصدّره كليبات الأغاني إلى كل العالم، إلى كل المنازل، إلى كل العقول. أين الخلل فهي مجرد رقصات فنية، شهوانية مغرية بعض الشيئ، صرف من أجلها الكثير ليُحصد من أجلها الكثير أيضا، إذ لا شيئ يملأ الجيوب ويقوي الاقتصاد مثل البدن العاري.

وانتبه، فإنك ستكون في مأزق إن ذكرت أن مثل هذه الكليبات لا تصلح للمشاهدة العائلية، فلا أحد غيرك بات يصدق قصة الأسرة وراعيها الذي يسهر من أجل لم شملها، ورسم مفاهيم دينية وأخلاقية لها، فمن ظل يصدق أن الثعلب الواحد هوالسبب في ضياع القطيع. قد أصيب بالهبل الذي يحاول ـ في زمننا هذا ـ مقارنة الكليبات القديمة وما تحويه من معاني تماشيا مع كلمات الأغنية. دعك من كل هذا بل حذار أن تحاول ذكر مثال عن الفن القديم، انسى "أورهان بابا" وانسى أغنيته "فلتسقط هذه الدنيا" Batsın bu dünya.

انسى كل شيئ وتذكر فقط أن تهز رأسك بنعم لكلمات الأغاني التي لا تفهمها فتلك هي زبدة الحياة.. ومهما داهمك تعب الصباحات الحزينة، حاول أن تهمل فكرة السفر إلى ماضيك واكتفي بارتشاف فنجان قهوة غنية بمواد غير طبيعية.