خاف.. يَخاف.. سيظل خائفاً إلى الأبد

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 19.10.2016 00:00
آخر تحديث في 20.10.2016 03:39
خاف.. يَخاف.. سيظل خائفاً إلى الأبد

العشية طويلة وللصبر حدود، لذلك تجدها عند أواخر الليل تعدّ الساعات ساعة بعد الأخرى منتظرة اللحظة التي تفتح فيها المراكز التجارية أبوابها، فتهرع لانتقاء ثوب أحلامها.

ستختار بالأخص تلك الحواف البيضاء التي مر عليها المقص على مهل، والتي أضافت إليها أنامل الخياط الكثير من الدونتيل الشفاف الذي سيُغرق حتماً المَعنيّ في الوردي من أحلامه. حتى إن لم تتضح بين عينيها كل حلقات مسلسل عمرها القادم إلا أن تفاصيل ليلة عرسها واضحة المعالم؛ الحلقة التي صرفت من أجلها الكثير من الخيال والعديد من سنوات الانتظار.

تريدها ليلة تفوق الخيال، لا مثيل لها، بل لا يمكن لأحد أن يأتي بشيء مشابه. ترى قبل الأوان صالة الاحتفال وما وُضِع فيها من تفاصيل؛ الأوركيد، والتوليب والورد الأحمر الذي يصل عطره كل الزوايا. وعلى الأشياء سترسم الأحجام المختلفة لظلال الشموع المنعكسة. هنا قائمة الأطعمة اللذيذة وهناك الأواني الفضية وكؤوس الكريستال.. الخدم، الحشم وكل الباقي.. وهي على كرسيها تراقب خفية حركات زوجها، كلماته، ونظراته إلى الأخريات، ربما لتُكوِّن بها مادة دسمة لعتاب طويل في اللاحق من الزمن.

لعلها بالغت في إضافة بعض النقاط، لكن الخيال خيالها ولها أن تفعل به ما يحلو لها. لا تنسى أنها فتاة مصرة على أن تقدم كل ما تملك، لتجعل من جميع الأفواه حولها يذكرون عرسها الخيالي لسنوات. سيصعب عليها كلام الناس إن حدث عكس ذلك، فهي تخافهم، تخاف ألسنتهم، تخاف نظراتهم، تماماً كما كانت، ولاتزال، عائلتها تخافهم، وتماماً كما سيظل الجيل القادم منها يخافهم، فالناس هم القوة الكبرى لنقلِ القيل والقال، هم الأقدر على نقل الخرافة عبر الأجيال.

إلا أن بعض التساؤلات لا تغادر الأذهان: كيف وصل بنا الأمر إلى هذا الحال؟ ما هو "كلام الناس"؟ ماذا يحدث إن لم نستجب لقوانين "كلام الناس"؟ من وراء هذه القوانين فرد أم جماعة؟ على أي أساس تُوضع؟ كيف ـ في أذهانهم ـ تُرسم أطر القضايا وتُحدد ماهياتها؟ لماذا علينا مثلاً أن نرتدي الأبيض عند الزواج والأسود حين الوفاة والأحمر لنعبر عن عشقنا والأصفر لنحترق بنار الغيرة؟ هل ذكرت الألوان بهذه الطريقة في الكتاب والسنة؟ بل أين نحن مما جاء في الكتاب وما أتت به المجتمعات من طقوس؟

لا شك أن مفهوم الحياة يعتمد أكثر ما يعتمد على العادات، والتقاليد وكلام الناس. والدليل على ذلك هو إصرارنا على استرجاع كل الفصول التافهة عند كل مناسبة، سعيدة كانت أم محزنة. نحاول دائماً أن نتقيد بما يسمى "الأصول" دون أن ندري من أي أصل هي في الأساس. والغريب أن ردود أفعالنا تبنى تلقائياً على ذلك؛ إذ نحب ونحترم أكثر من يطبق "الأصول" ونهمل من يختار لنفسه طريقاً مخالفاً، بل كثيراً ما نقلل احترامنا تجاه شخصه واختياراته، أحياناً دون وعي منا وأحياناً كثيرة متعمدين كل جزء من ردة الفعل.

نحن البشر، صحيح أن الخالق وهبنا أدمغة لكننا فضَّلنا وضعها جانباً، لأن استعمالها أمر متعب. بطبيعة الحال الحياة أسهل بكثير إذا اتبعنا وقلدنا ما أتى به غيرنا بدل أن نخلق لأنفسنا عند كل منعرج- أسلوباً خاصاً بنا. تعودنا ذلك، تعودنا التقليد واتباع القطيع الذي يمر بنا دون أن نسأل عن وجهته. كيف نسأل ونحن قوم يستحي من السؤال، يستحي من التفكير بل يستحي أكثر من أمور لا حرام فيها في حين لا يستحي من ارتكاب الحرام في أمور إن لم يقم بها كما يبغيها القطيع يصاب بالحرج منه ومن كل الناس.. وما دام العيب أهم من الحرام، سيظل كلام الناس يهمنا ويخيفنا ويؤثر فيما نأتي به من قرارات مصيرية قد تدخلنا النار بدل الجنة.

يجدر بنا أن نفكر مرة أخرى في أسلوب الحياة، لعلنا نغير منهجيتنا، نغير المنظار الذي نرى من خلاله الأمور والمنطق الذي نحدد به المفاهيم. يجدر بنا أن نسهر على إنتاج جيل سليم التفكير، له أن يفرق بسهولة بين سطحيات الأمور وعمقها، وأن يصوب تركيزه على قلب القضايا لا على قشورها؛ إذ ما الفائدة من صرف طاقات البشر وأموالهم الطائلة ـ غالباً ما تكون ديناً في رقابهم ـ على بروتوكولات تمضي سريعاً، كلمح البصر، فقط لأن أصحابها مرتعبون من ردة فعل الناس وأقوالهم، رغم علمهم واقتناعهم أن إرضاء البشر غاية لا يمكن إدراكها.