نجاح ماتريوشكي.. في فراغ الدمى الروسية

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 21.10.2016 00:00
آخر تحديث في 22.10.2016 03:33

الأستاذ هنا، ولأنه فارغ ذهنياً، تجده بكل الأخلاقيات المباحة يحاول احتواء طالبه والدفاع عنه، دون أن يدرك أنه مجرد فراغ، لأن الفراغات -بطبيعة الحال- نادراً ما ترى بعضها بعضاً.

من خشب الصندل أو الزيزفون يختار القِطَع المناسبة ويبدأ بتشكيلها؛ إنها حركة بسيطة ليجعل للمادة التي بين يديه انحناءً طفيفاً عند المنطقة العلوية وقطعاً مناسباً على مستوى الخصر، فيكون بذلك قد حوّل القطعة الواحدة إلى جزئين. إلا أن التحدي الأكبر يكمن في أن يجعل للقطعة الأولى أخوات لا بالحجم نفسه إنما بالانحناءة نفسها على أن تكون كل قطعة تالية ذات حجم متناقص ومناسبة لتختبئ في جوف السابقة. إنها بلا شك الدمية الخشبية "ماتريوشكا".

فكرة انتشرت كالريح بعد ما عصف بها "سيرجي ماليوتين" من أراضيه الروسية الباردة، من جزيرة هونشو اليابانية، ردّاً -وهذا طبعاً ما تأتي به واحدة من الروايات المتعددة- على دميتها "الرجل الحكيم الأصلع". ماتريوشكا، الدمية التي لعبت الكثير من الأدوار دون أن يعرف أحد الغرض الحقيقي منها؛ لعلها فقط رمز للبلد، لعلها فعلاً مستنسخ عن قصة الصنم والحفيد الذي كان يحويه في داخله، أو لعلها -وهذا ما أميل إليه- كانت مجرد فكرة بريئة لصاحبها، بعيدة عن كل الرمزيات التي تنتجها أدمغة من حوله، بعيدة عن كل تخمين أو تأويل يُفتَعل لغرض أو لآخر.

وكأي شخص يعشق التأمل حين يغرق بصري في تفاصيل ماتريوشكا الأم أو واحدة من السيدات الصغيرات من جنسها نفسه، أصاب بالانبهار؛ ليس لحسن ملمسها، أو منظرها وألوانها، إنما لبساطتها. فبالرغم من كونها مجرد جوف فارغ بانحناء طفيف في الأعلى، إلا أن وهج الألوان التي صبغت بها جعلت من بساطة الخشب شيئا آخر... أفكر... كيف للون أن يغير حقيقة الشيء ويبدل ماهيته، وكيف لانتفاخ معين أن يزيد من حجم الشيء ومن ثم من هيبته وقيمته. تخيل معي فراغاً يحوي فراغاً وهذا الأخير يحوي فراغاً آخر وهكذا... وإذا كان الفراغ يشغل فراغاً في الفراغ نفسه ويُحدث بذلك تحوّلاً، فلا بد أن نغير المُسمّى؛ ربما من "لا شيء" إلى "لا شيء الكبير".

ليست فلسفة لكن الذهن -دون إذن- يحب دائماً أن يروح بنا إلى أمور أخرى، ملموسة ومُعاشة... يحب أن يمارس بعض الإسقاطات على أرض الواقع، أن يُشعرنا بلا تجانس بعض المفاهيم.

فيجعلنا نتخيل -على سبيل المثال- شخصاً نادراً ما يَسهُل عليه ملء منصبه لأنه "فكرياً متوسط الحال" لكنه وصل إلى ما وصل إليه بسبب "نفخات لا شرعية" في شخصه. فحينما ننظر إلى ما سبق مَنصبه ذاك من سنوات، نجد أنه كان طالباً ليس كغيره من الطلاب، كان يمارس -ربما دون وعي منه- أفعالاً أخرى؛ بات في فترة ما خادماً لسيده، يحمل حقيبته ويفتح له باب سيارته حين يصل المكان ثم باب مكتبه، ويصب شايه ويصلح العطب على حاسوبه، ويقوم بشكل آلي بكل الأعمال التي يراها سيده دون مستواه. ووقت الامتحان، رغم دنو مستوى ذلك الطالب إلا أنه يُكرم بدل أن يُهان، ليس لأنه يستحق إنما رداً للجميل. الأستاذ هنا، ولأنه فارغ ذهنياً ومحشو عاطفياً، تجده بكل الأخلاقيات المباحة يحاول احتواء طالبه والدفاع عنه، دون أن يدرك أنه مجرد فراغ، لأن الفراغات -بطبيعة الحال- نادراً ما ترى بعضها بعضا.

ومع مرور الزمن، وفجأة، كمحتاج يعثر على كيس أموال على حافة الطريق، تجد الطالب نفسه، طالب الأمس، كثير الوظائف، قد تحول هو الآخر إلى أستاذ لا نظير له، يُمدح قياماً وقعوداً. ليس هذا فقط، بل تراه بصدد احتواء طالب آخر قد بدأ -بسم الله- يتخبط أمام مسار دراسي طويل، وبعفوية ما كان قد ساعد أستاذه على نقل محفظته البنية القديمة وجملة أوراقه المتساقطة من هذا المكان إلى ذاك، وكانت تلك الخطوة كافية لتُفوّضه أعلى المراتب وإن لم يكن من الطامحين إليها. فيا عزيزي لا تستغرب إن قابلته يوماً ممارساً للكلام ومفتعلاً للتفكير وكل شيء فيه ناعم الملمس، لأن الخشونة تخلق المواجهة والمواجهة ترهق أعصابه. لا تستغرب إن قابلته مرة واكتشفت كم هو سطحي، وكل ما يملك من قناعات معروضة بشكل واحد؛ الدائري... وإلا فكيف -حتى هذا العصر- بقي الكبير يأكل الصغير ويحتويه... اللا شيء يبتلع اللا شيء الأصغر فينتفخ، وبعملية البلع الدائمة تنتفخ الفراغات تنتفخ وتنتفخ وتنتفخ حتى تشغل حيزاً في الفراغ نفسه.

شكراً لك أيها الذهن ولكل ما تطرحه من واقع، على الأقل تجعلنا ندرك السلسلة الفارغة في هذا الوجود، تجعلنا نتمتع بالمشاهدة وكيف تُغطى الأجسام بالألوان أو تُحشى بما لا قيمة له، تماما كما الدمية... تلك التحفة من العدم.

وطبعاً أيها الذهن أنت لا تريدني أن أحزن، فكما تقول لي دائماً: يكفيني دلو ماء أرمي به كل الدمى فتتساقط الألوان قطرة قطرة... لوناً لوناً. حينها تظهر للعيان كل عيوب الهيكل الأصلي، تتضح أكثر فكرة الاحتواء وتسرد على مهل خلاصة النجاح الماتريوشكي.