هزي إليك بجذع النخلة..

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 29.12.2016 00:00
آخر تحديث في 30.12.2016 00:30

أحيانا لا يدرك الكبار الحاجة الشديدة لقضاء بعض الوقت مع أطفالهم، إن خوض بعض الحوارات معهم ـ مهما كانت بسيطة ـ تجعل منهم أشخاصا آخرين؛ فإن لم نستطع في مرحلة ما أن نوصلهم أفكارنا، على الأقل نكتشف أي أفكار هم عليها، و بشكل ما ـ إن تطلب الأمر ـ نصححها قبل فوات الأوان.

ـ لماذا لا يوجد نخيل في هذه المدينة يا أمي؟ تسأل الطفلة "مها" أمها في انتظار الضوء الأخضر عند الإشارة؟

ـ لا أدري السبب بالضبط، ربما الطقس لا يساعد على نمو ذلك النوع من الأشجار.

ـ ألذلك الناس هنا يزينون أشجارا أخرى غير النخيل في عيد الميلاد؟

ـ ربما، وربما لأنهم لا يعلمون.

ـ فليأتوا إذن إلى مدرستي الثانية، فيها نتعلم الكثير، نلعب ونأكل الكعك، ونصنع الكثير الكثير من الأشياء من بقايا أشياء أخرى تجمعها المعلمة.

ـ ـ ـ

الأيام تمر بسرعة، وهي كذلك ساعات اليوم الواحد تأتي وتذهب في عجالة دائمة، كشمس خجولة في يوم غائم؛ ما تكاد تطل حتى تختفي مرة أخرى، تظل تصارع السحاب حتى يحسم الظلام أمرها ويدفع بها إلى الطرف الآخر من الوجود. وحينما يأتي المساء، تدق "مها" باب منزلهم عائدة من مدرستها الابتدائية، وما أن تلج حتى تسأل أمها مرة أخرى ودون ملل إن كانت عشية ذلك اليوم هي ـ فعلا ـ العشية التي سيزور فيها "بابا نويل" غرفتها، وأنه خلال الليل سينحني ليقبل جبينها بعد تركه عند حافة السرير الهدية التي طلبتها منه في الأسبوع الأول من آخر شهر لهذا العام. الشهر الذي ذكرت آنسات مدرستها أنه شهر الميلاد، شهر الهدايا وشهر الأشجار المزينة بالألوان والأنوار في المنازل، المحال وكل الأماكن العامة.

كيف لأي بالغ أن يحرم صلبه أوالفرد الذي يرعاه من فرحة الطفولة، حتى إن كانت تلك الفرحة تصدر عن أقوال لا يرى فيها الراعي أساسا من الصحة، أو ربما يرى فيها بعض الصحة ولكنه يعجز ـ حينهاـ عن فرز بعضها عن بعض.. فهي تمتثل أمامه كثوب طويل، جميل وجذاب إلا أنه ليس حريرا أصليا إنما فيه من الأقمشة الأخرى ما يوقعه في حرج التمييز . كيف لأم أن تتحدث مع طفلة في الخامسة من عمرها بأسلوب يجعلها تفهم أمورا تصعب ـ في الكثير من الأحيان على البالغ أن يفهمها، بل كيف لها أن تروي قصة الميلاد الحقيقية وأن تصورها أمام فلذة كبدها دون غبار، دون إضافات "لأهداف تجارية" ودون ما تأتي به الروايات من طقوس وخزعبلات.

ـ سننتظر يا عزيزتي هذه الليلة أيضا، لعله يأتي.. وإن فعل لا تنسي أن توقظيني أنا أيضا.. أود أن أشكره على ما سيأتيك به من هدايا.

وككل ليلة ترسل الأم ابنتها إلى السرير بنفس الجواب المبطن. وعند الصباح دون أن تسألها شيئا عما فات، تطعمها بعض الطعام وتتجه بها إلى المدرسة بوجهها غير الصبوح ذاك؛ فعليه القليل من ألوان الحزن والكثير من ألوان الخيبة.

ـ أعتقد أنه مزحة.. أقصد " بابا نويل".. هو مزحة أليس كذلك يا أمي؟

في الطريق إلى المدرسة، وككل مرة تجد "مها" لنفسها موضوعا تتحدث فيه مطولا وكما تشاء، بإطناب حينا ودون إطناب أحيانا أخرى، دون أن تشعر أنها بحاجة إلى سماع رد أمها تسأل وتجيب نفسها بنفسها، إلى أن تجد وبتلقائية بدنها الصغير ينزل من على الدراجة، تركنها في مكانها المخصص وتتجه إلى صفها.

قد أدركت الأم الحاجة إلى أن تتعرف ابنتها على عالم آخر غير الذي هي فيه، والحاجة إلى تناولها لجرعات أخرى من الحقائق غير التي تأخذها يوميا ضمن برنامجها الدراسي. والحال كذلك، باتت الصغيرة واحدة من رواد مدرسة ثانية إضافية، وكانت أماسي كل جمعة كافية في أن تبث في أطفال من عمر "مها" منهجا جديدا، وطريقة أخرى لتخيل الأمور ونسجها مع بعض. قد لا يكون ذلك كافيا لتوضيح كل الحقائق لأشخاص في عمر البراءة، ولكنه خطوة تنجيهم ـ على الأقل من قضاء الليالي في انتظار "بابا" آخر غير الأب الحقيقي.

ـ انظري يا أمي، لقد صنعنا اليوم نخلة، إنها ترمز إلى النخلة التي ولد عند جذعها سيدنا عيسى عليه السلام.

ـ صحيح؟ جميل.. وما هذا اللؤلؤ الملصق عليها.. لماذا زينتموها به؟

ـ هذا اللؤلؤ يرمز إلى عرجون التمر.. أتعرفين يا أمي.. أخبرتنا المعلمة أنه عندما ولدت الأم مريم سيدنا عيسى عليهما السلام تحت شجرة النخيل أمرها الله عز وجل أن تهزها: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا )" (سورة مريم 25). وهذا اللؤلؤ.. كما تقولين.. يُحدِث صوتا حين تصل المعلمة في قراءتها لذلك الجزء من الآية وتطلب منا هز النخلات التي صنعناها.. أليس شكلها جميلا.. ألم تعجبك؟

تعود بها أمها يوم الجمعة من مدرستها الثانية، وككل مرة تأخذ "مها" النصيب الأكبر من الكلام، تمارس السؤال والجواب في نفس الوقت. وفي انتظار الإشارة لقطع الطريق تواصل:

ـ لماذا لا يوجد نخيل في هذه المدينة يا أمي؟

ـ لا أدري السبب بالضبط، ربما الطقس لا يساعد على نمو ذلك النوع من الأشجار.

ـ ألذلك السبب الناس هنا يزينون أشجارا أخرى غير النخيل في عيد الميلاد؟

أحيانا لا يدرك الكبار منا الحاجة الشديدة إلى قضاء بعض الوقت مع أطفالهم، إن خوض بعض الحوارات معهم ـ مهما كانت بسيطة ـ تجعل منهم أشخاصا آخرين؛ فإن لم نستطع في مرحلة ما أن نوصل إليهم أفكارنا، على الأقل نكتشف أي أفكار هم عليها، وبشكل ما ـ إن تطلب الأمرـ نصححها قبل فوات الأوان.