حوار مع "مروة تشريش أوغلو" صانعة فلم "The Box" حول المأساة في حلب

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 06.01.2017 00:00
آخر تحديث في 07.01.2017 02:02
حوار مع مروة تشريش أوغلو صانعة فلم The Box حول المأساة في حلب

على كرسي خشبي أزرق جلست إلى جانب النافذة أراقب أقدام المارة. كان الشارع ضيقا غير أن البشر في ذهاب وإياب دون أي تصادم أو احتكاك. كان علي أن أنتظرها في ذلك المكان بالضبط لأنه الأقرب إلى جامعتها، فانشغالاتها كثيرة وطموحاتها كبيرة، وما إن وصلت حتى قالت:

ـ كرسي أزرق.. لون البحر.. بلال دفع بقاربه نحو زرقة مشابهة.

كنت أحاول العثور على صفحة الأسئلة، منتظرة منها توضيحاً عن بلال وماهية الزرقة التي بدأت بها كلامها، في نفس الوقت كان داخلي يسألني عن نوع الأسئلة الأخرى التي سأطرحها على موهوبة أنهت للتو عملها الأول، ربما قصة الفلم نفسها تجعلنا نتعمق قليلا في ممارسة السؤال ولكن ماذا بعد ذلك؟

وأنا على ذلك الحال، أخرجت مروة من حقيبتها فاصلة للكتب وقالت بابتسام:

ـ استعملي هذه، من قال إنها لفصل صفحات الكتب فقط.. يمكن أن تستعمليها لأغراض أخرى، كالوضع الذي أنت فيه.

رفعت الفاصلة أشاهد الرسم الذي عليها، صورة شاب يرفع فوق رأسه مجموعة من الكتب.

ـ أرسمها بنفسي ثم يعمل الفريق المتطوع على طباعتها وبيعها.. تخيلي أننا أنهينا مسكنا كاملا لليتامى فقط من أرباح هذه الفواصل.. تقول مروة.

عرفت بعدها أن الكثير من الكلام الجميل سيقال في واحدة من أصغر المقاهي اللندنية. كما عرفت أن الجالسة معي ليست مجرد طالبة أنهت أول عمل لها، إنما هي خزينة في حد ذاتها، تملك من الطاقة ما يكفي لجني أشهى ثمار النجاح ومن الإيمان ما يجعلنا نتعلم منها الكثير. في حديثي مع مروة، اكتشفت أنها ليس مجرد صانعة أفلام فقط وإنما صانعة آمال أيضا.. وبصراحة لم ألتق في حياتي قطّ صانع آمال يشبهها. إنها الإنسان بكل معنى الكلمة والمثل الأعلى الذي علينا جميعا أن نقتدي به. إنها المثل الجميل المفقود في هذا الزمن.

وهنا حيثيات الحوار الذي دار بيننا..

ـ من هو بلال وما علاقته بالبحر وزرقته؟

ـ (ابتسامة حزينة).. بلال هو رمز الشجاعة، هو الطفل الصغير الذي رفض الاستسلام، والذي آثر استرجاع الحياة التي سلبت منه. بلال هو طفل ينوب عن آلاف الأطفال مثله، منذ بدايات الحرب على سوريا عام 2011 حتى الآن والذين تجاوز عددهم حسب الإحصائيات 8.4 ملايين طفل.. هؤلاء شُردوا من منازلهم وهُجروا من ديارهم دون سبب، من لم يمت في الساحات مات في البحر وكشفت الأمواج عن جسده.. بلال هو بطل فلمي القصير "The Box" أو"العلبة الكرتونية" مع قطته "ليمونة". الفلم الذي حاولت كثيرا، وأنا أجهز له، الهروب من صور القتل والدم والأجساد المتناثرة هنا وهناك، لكني لم أستطع.. تمنيت لو أنني استطعت أن أجعل من بلال بطلا لقصة أخرى مفرحة، أو على الأقل أن تنتهي قصته بالفرح والسعادة، لكني لم أستطع.. لأن كل إناء بما فيه ينضح كما يقال ولأنه الواقع. هذا الواقع الذي فرض علينا كل هذا الألم والأذية التي كثيرا ما استعملت كمادة إعلامية لا غير، وعرضت على شاشات التلفزيون على اختلافاتها وتنوعاتها. هذه الشاشات والوسائل المختلفة للتواصل جعلت من نشرها المستمر للألم أمراً طبيعاً.. عودت الناس رؤية كل تلك المناظر والأجساد الميتة في العراء، وعلى شواطئ البحار، فصار الأمر عادياً لأغلبية البشر، كقهوة الصباح! وبدل أن تدفعهم لفعل شيء.. أي شيء كان.. قتلت في داخل الإنسان روح الدفاع والرغبة في المساعدة. استعملتُ في هذا الفلم القصير رمزيات عديدة لتجنب الكثير من المناظر الجارحة، حفاظا على خصوصية الأمر وحفاظا على الروح الإنسانية التي فقدت لسبب أو لآخر. والعلبة الكرتونية كانت هي الأخرى، دلالة واستعارة لماهية الوطن ودرجة تعلق الإنسان به؛ كانت العلبة مجرد لعبة ثم زينها بلال مع قطته ليمونة وحولاها إلى بيت لهما حين فجرت القنابل منزلهما الحقيقي، ثم تحولت العلبة مرة أخرى إلى قارب صغير ليبحر به الطفل الصغير فيما بعد نحوالأمل..

تعرفين.. المحزن في الأمر أن العلبة الكرتونية على أرض الواقع تستعمل كمادة لصنع المنازل وكوسيلة للاحتماء بها، هذا ما رأيته ـ خلال بحثي ـ في الكثير من المخيمات التي يعيش فيها كم هائل من الذين فقدوا وطنهم ومنازلهم الحقيقية.. علبة الكرتون ليست محض خيال إنما هي الحقيقة.

ـ كيف وصلت إلي هذه المرحلة من إنجازك للفلم؟ هل مَن ساند فكرتك في الخفاء وساهم في العمل مساهمة مادية أومعنوية؟

ـ اسمحي لي أن أبدأ بآخر مرحلة.. كنت بصدد البحث عن شخص أوهيئة تدعم فلمي القصير.. الذي هو في الحقيقة مشروع تخرجي من جامعة الفنون بلندن (University of the Arts London).. تعرفين المصاريف الدراسية لا تنتهي.. الهلال الأحمر التركي كان واحدا من المؤسسات التي أرسلت لها طلبا للدعم كونها مؤسسة معروف عنها اهتمامها بقضايا الإنسان.. أسعدوني بردهم الإيجابي وهنا في لندن كونت فريقا من عشرة أشخاص للعمل على المشروع أغلبهم طلاب مثلي من دول مختلفة: تركيا، ماليزيا، فنلندا، النرويج، رومانيا. وخلال مدة تقارب الأربعة أشهر أنهينا الرسومات والتلوين والتركيب وغيره، اعتمدنا تقنية اللقطة بعد اللقطة (Frame-by-frame) وهذا يعني أن أي حركة وأي ثانية مرت تم صرف الوقت عليها.

ـ (مداخلة) إنه لتحدٍ فعلا والتحدي الأكبر ربما أنك نجحت في اكمال الدراسات العليا في قسم الفنون وبالضبط قسم الرسوم المتحركة وأيضا في جامعة عرفت بقوتها في هذا المجال.. كيف تمكنت من ذلك والكل يعرف مدى غلاء الرسوم الدراسية وتكاليف الحياة ككل في مدينة مثل لندن.

ـ نعم صحيح وذلك هو الجزء الثاني من جوابي هن السؤال السابق.. فأنا كنت قبل ذلك قد حصلت على منحة من وقف تركي.. بطريقة مدهشة ومفرحة في نفس الوقت.. تكاليف الحياة هنا كما ذكرت تفقد الإنسان الجرأة حتى في أن يحلم بإتمام الدراسات العاليا.. لكن المسؤول عن قسم المنح في الوقف تواصل معي بشكل ما بعد النجاح الذي سجلته الأعمال البسيطة الأولى كفواصل الكتب وغيره التي كانت لغاية خيرية لا غير...

ـ ( مداخلة).. وهذا إنما يدل عن جدية الأوقاف والهيئات التركية في البحث عن أشخاص يستحقون الدعم بكل أنواعه، وأنهم ـ وهذا هوالمعروف عنهم - لا يمنحون الطلاب بطريقة عشوائية، ما يساعد في الحافظ على صدقيتهم. لكني أطلب منك أن تتحدثي قليلا عن قصة الفواصل التي جهزتها وهل هناك أمور أخرى مشابهة؟

ـ نعم في الحقيقة هناك الكثير من الأمور الأخرى البسيطة والصغيرة.. وتجربتي هذه جعلتي أكثر إيمانا بفكرة أن التفاصيل الصغيرة تحقق نجاحات أخرى تفوق الخيال.. فواصل الكتب، الرسمات البسيطة التي رسمتها على أغلفة الدفاترالصغيرة، الملصقات، الأكواب والقطع المغنطيسية المستعملة للزينة، سواء أكان ذلك على أبواب الثلاجات في مطابخ المنازل أوعلى الخزانات الحديدية للمكاتب وغير ذلك. تخيلي أن ناتج كل هذه الأعمال التي بدأناها كفريق قبل ستة سنوات ساهم في بناء مركز لليتامى ومدرسة ضخمة..

لم أكن بصراحة أتخيل أن رسومات بسيطة على الورق ستكون سندا كبيرا للمحتاج والطفل اليتيم خاصة، كنا نبيع العينات لطلاب مثلنا، كانوا يعرفون أنها ليست لغايات تجارية وأن مقابل مساهماتهم البسيطة لأي عمل خيري سيحصلون على مادة بسيطة كعربون شكر.. وعي العامة وإدراكهم لموضوع المساعدات أثر فينا جميعا وشجعنا كفريق على الإستمرار.

ـ (مداخلة) تذكرين دائماً كلمة الفريق.. من هم؟

ـ (ابتسامة).. سأعود بالتاريخ إلى الوراء قليلاً.. كنت طالبة في جامعة Boğaziçi üniversitesi؛ وكنا فيها مع مجموعة من الصديقات في تفكير يومي ودائم، ماذا علينا أن نفعل لنساعد من هم بأمس الحاجة إلى المساعدة.. ومن هناك انطلقت فكرة الفواصل.. بدأت أنا بالرسم.. واهتمت الصديقات الأخريات بالطباعة والتسويق. بدأ العمل بجد في مدينة إسطنبول، ليصل بعد ذلك إلى 65 ولاية أخرى من ولايات الوطن. كان ذلك بفضل العدد الهائل من المتطوعين وكذلك بفضل الوعي الدائم للمواطن، كما ذكرت، الناس كانوا يدركون جيدا أنهم لا يشترون وإنما يتبرعون، وبفضل تبرعاتهم تلك صرنا الآن بصدد إنهاء المركز الثالث لليتامى. هذا أمر مفرح جداً ألا ترينه كذلك؟

وفي الوقت نفسه، هي رسالة لكل شخص يعتقد أنه لا يقدر على فعل شيء، أو ربما يعتقد أنه لا يملك شيئا للمساعدة، خاصة من فئة الطلاب. أقول لهم بالعكس، هناك الكثير والكثير من الطرق التي تساعدنا على أن ترك بصمتنا، مهما كانت هذه البصمة بسيطة فستظل نبيلة إلى الأبد.

ـ دعيني أقل إنك لست فقط صانعة أفلام إنما أنت صانعة آمال أيضا.. وكي أعود بك إلى موضوع الفلم القصير، هل من مهرجانات شاركت فيها؟ أسأل هذا السؤال رغم أني شخصيا صرت مقتنعة بأن الكثير من المهرجانات خاصة المهتمة بمجال صناعة الأفلام، قد فقدت صدقيتها، لسبب أو لآخر.

ـ فلم العلبة حديث العهد، ربما الحديث عن نتائج المهرجانات سيكون سابقا لآوانه.. أقول نتائج المهرجانات لأنني أنهيت للتو التسجيل في عدد منها.. مبدئيا حصلت على بعض النتائج؛ منها من اختار فلمي كأفضل فلم وأقصد بذلك مهرجان الربع السنوي للأفلام القصيرة ببلجيكا (2016 Move Me Productions` Quarterly Online Short Film Festival, Belgium- Best Animation Short Film) . وهناك من وصل معهم فلمي إلى النهائيات وأقصد بذلك المهرجان الشهري للأفلام ببريطانيا (2016 TMFF The Monthly Film Festival, UK – Nominated for Best Animation). وواحد من المهرجانات الهوليودية رفض مشاركتي بعد دقائق فقط من إرسالي طلب الاشتراك، وحين طلبت الاستفسار كان ردهم بالحرف الواحد: "القصة جميلة لكنها مستهلكة، ما يهمنا من المشاركات في قسم "الحرب والجريمة" مواضيع أخرى؛ مثلا كيف يعامل الرجل السعودي المرأة في مجتمعه". وبصراحة لا تعليق لي على هكذا رد، أترك لك التعليق.. بالنسبة إلي، المهرجانات مهما كانت دون صدقية فهي تظل وسيلة نُسمع من خلالها أصواتنا للطرف الآخر.

شخصيا لا يهمني من المهرجانات النجاح الذي ترسمه فقط، إنما يهمني أكثر أن أتحدث من خلال أعمالي ورسوماتي، كفرد مسلم، عن مجتمعي وعقيدتي، عن قناعات أخرى وعن نمط آخر للحياة. يهمني أن أسمع صوتي بشكل من الأشكال.. قد أحوّل فلم العلبة إلى أجزاء وربما قد أختار قصة أخرى.. لا أدري فأنا لم أرسم خطة للخطوة القادمة بعد، والمهم في الأمر أن أستمر بنفس الطريقة اللطيفة في إبراز المشكلة ومعالجتها على نحو معين، كمرهم يوضع على موضع الألم، إن لم يعالجه تماما يخفّفه .. وهذا أمر لا أراه خياراً شخصياً، إنما واجباً علي إتمامه وعلى أكمل وجه.