استغلال العبد للعبد.. موضة مستهلكة تعود بثوب جديد

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 17.02.2017 00:00
آخر تحديث في 21.03.2017 14:09

تلامس أصابعك مراراً حروف القصة الغريبة نفسها، كأنك لا تصدق ما يحدث أو أنك تحاول بلمسك لها تبديلها، رغم مضي أسبوع كامل على تدوين صحيفة "إندبندنت" البريطانية لتفاصيلها. قصة عن مضيفة الطيران "شايلا فريدريك" التي نجحت بطريقة ذكية في إنقاذ حياة فتاة في 15من عمرها. حدث ذلك أثناء رحلة جوية لشركة "ألاسكا إيرلاينز" من سياتل إلى سان فرانسيسكو، وخلالها كشفت المضيفة صفقة "الاتجار بالبشر" التي حرص على تنفيذها رجل في كامل أناقته كان يجلس بجوار المراهقة المرتبكة بهندامها الرث.

وكما يحدث في الأفلام، قامت المضيفة بترك رسالة على مرآة الحمام تسأل فيها الفتاة إن كانت بحاجة إلى المساعدة. دخلت الثانية الحمام بإشارة من الأولى فور خروجها منه، وتركت هي الأخرى رداً يقول إنها بأمس الحاجة لشخص يخلصها من المأزق الذي وقعت فيه. بعد اطلاع المضيفة على رد الفتاة قامت سريعاً بإخبار ربان الطائرة الذي بدوره تواصل مع شرطة سان فرانسيسكو، فتم اعتقال الأنيق مباشرة بعد الهبوط.

تخيل أن حدثاً كهذا يحدث الآن في عامنا هذا، كأنك تتابع تفاصيل خبر على المباشر. يحدث الآن وفي دولة مثل أمريكا! الدولة التي لطالما رفع المواطنون فيها لافتات تدعو إلى العدل والمساواة، ونادت الجماهير فيها بالحرية ووضع حد لسياسة الاضطهاد. الدولة التي سببت قضية العبيد فيها، ذات زمن، جدلاً أخلاقياً كان السبب الأكبر في اندلاع الحرب الأهلية، لتعلن بعدها غسل يدها من مسألة الرق، مؤكدة ذلك بتعديلات شهدها الدستور، إلا أن الممارسة استمرت -كما جاء في كتب التاريخـ لبضع سنوات، أو ربما لسنوات عديدة.. فمن له أن يجزم وصحيفة مثل "إندبندنت" حتى الآن تحن إلى الزمن الغابر و تدوّن على صفحاتها القليل منه.. زمن غابر فعلا أم أنه مجرد اعتقاد؟

أليس من المخزي أن تستمر الحياة حتى الساعة بالطريقة التي بدأت بها؟ قد يتعذر جر تاريخ أمريكا بكامله في سحاب واحد هنا، إلا أن القرن التاسع عشر كان الشاهد الدائم على أقلام نزفت مُرّ تلك الحقبة، لكتّاب انصرفت عنهم مراحل الحياة تاركة إياهم على نفس الوضع؛ يصب كل واحد منهم تجاربه الخاصة على الورق.. يكتب أحداثا حقيقية عن العنصرية، العبيد و استغلال الأبيض للأسود.. يدون ما عاشه من ليالي عنف وصباحات اضطهاد. ولم تكن الرواية في تلك الفترة بحاجة إلى حشو لتصبح كذلك، لأن الدراما الحقيقية بين الصفحات التي عاشها صاحبها، كانت كفيلة بأن تدمع لها العين و يضعف أمامها الفؤاد.

لم تأت السيرة الذاتية "12 عاما من العبودية" للكاتب سولومون نورثوب (Solomon Northup") إلا دليلاً على زخم التاريخ المؤلم في تلك الفترة، التي اعتُمدت فيما بعد منصة عريضة لسيناريو الفيلم البريطاني الأمريكي "12 سنة عبد" (12 years a slave). و كما جاء في الكتاب من تفاصيل و سرد لأحداث عاشها سولومون، اعتمد المخرج ستيف ماكوين Steve McQueen التسلسل الدرامي نفسه لتصوير دقائق من حياة سعيدة لحر أسود، يُختطف فجأة ليقضي سنوات في خدمة سيده، منتظرا منه لحظة إطلاق سراحه، لحظة معانقته لعيشة هنية سبق أن ذاق طعمها.

قد تعتبر شايلا فريديريك ـكما قال عنها كل مطّلع على الموضوعـ شجاعة، تماما كما كان سولومون في غاية الشجاعة وهو يدافع عن شخصه، هويته وحريته. لكن، ألا يجعلك الفاصل الزمني بين القصة الحالية والواقعة في زمن سابق تفكر؟ ألا يصيب داخلك بالارتباك والذعر.. إذ كيف يمكن أن تستمر الإنسانية في ممارستها لمثل هذه الأفعال بعد كل ما وصلت إليه من تطور وتقدم.. كيف لها أن تنزل بمرتبة البشر؛ تعده حاجة مرة وغاية مرة أخرى، بعد دقها أبواب الرفعة والرقي؟ أم أن التجارة تجارة بغض النظر عن نوع البضاعة وطريقة تسويقها؟

لا غرابة إذن إن اعتبر الكتاب والنقاد من خلال كتبهم ومقالاتهم، الاتجار بالبشر ثالث تجارة في العالم، بعد تجارة المخدرات والأخرى المعنية بالسلاح. وكشريط الموضة، ما تكاد حلقاته تروح حتى تعود من جديد، تظل هذه الأنواع الثلاثة في تنافس على المرتبة الأولى، والعمر وحده يشهدنا على بروز واحدة منها في ثوبها الجديد، وبمظهرها المختلف ذاك تحاول ستر البدن نفسه.