تشريح الفن والجمال بالتمام والكمال!

جري سالم الجري @jerisaljeri_
نشر في 28.04.2018 00:00
آخر تحديث في 28.04.2018 23:26
تشريح الفن والجمال بالتمام والكمال!

سنين وأنا أدرس آداب اللغة الانجليزية، وكان المعلمون مشكورين على مساعيهم يعرفوننا جوهر العقل الغربي. فالنظرة الغربية إلى الجمال تختلف عن نظرتنا الشرقية. ولكن البشرية تجتمع على المنطق العقلي الذي لا يعتمد على الأذواق بل على الحقائق، ومن هنا وقع الكثيرون بمأزق عسير، فكيف لنا أن نحكم على حقيقة الجمال والفن بحكم قاطع موحد؟ فالكل يعلم بأن شعورنا بالجمال ينتج من شعور داخلي خاص بكل إنسان. فلنمسك المشرط، ولندخل المختبر لنشرح الأدمغة التي تستوعب الجمال، لنظفر أخيرا بالمعنى الحقيقي للجمال والفن!

البروفيسور في علوم الأعصاب والمخ، راماشاندر من الهند، ألقى محاضرة بأمريكا عن استجابتنا للجمال والفن، وخصصها لشرح نشاط المخ أثناء مشاهدة الأعمال الفنية. باختصار أوضح أننا مبرمجون فسيولوجياً (هرمونياً-وعصبياً) لتفاعل مع أي محفزات مكبوتة في أي عمل فني. وضرب مثلا فراخ الطيور الذين عرضت عليهم رسوم لمناقير أمهاتهم. كانت الرسمة عبار عن منقار ثلاثي الأبعاد وعليه بقعة دائرية تمثل منخر المنقار. حفزتهم الرسمة بأن يبدؤوا بالصراخ للأم باعتبار أن وقت الغداء قد حان. قاس العلماء النشاط الكهربي بأدمغتهم في لحظة مشاهدتهم للرسمة. وبالفعل أصدرت أدمغتهم تفاعلات كبيرة في المناطق الدماغية التي تطلق أمر إفراز هرمونات تناول الطعام!


ولقد زاد تفاعلهم لما زاد الرسام طول المنقار وحجم الدائرة، كذلك هي أدمغتنا عندما نشاهد أي مثير بصري أو حتى سمعي. أما الإنسان فدماغه أكثر تعقيدا، لذلك هو يستطيع التمتع "بخلطة" معقدة من المحفزات المتراكبة، مثل لوحة الموناليزا التي لا تعطي تعبيرا للوجه واضحا، ومثل مسرحياتنا العربية ذات حبك درامي متشابك. ولكن كل هذا لم يجينا عن سؤال ماهو الجمال؟ وهل له تعريف موحد؟


في كل مرة يحاول الفلاسفة توحيد مفهوم معين، لا يسعهم إلا أن يبسطوه بشكل سطحي جدا. فوصلوا إلى القول "الجمال هو الاتساق". بمعنى ان الكواكب في العائلة الشمسية لها حركة غاية من الجمال عندما تكون متزنة، كل جرم سماوي يتحرك بتزامن دقيق جدا مع مجال جيرانه من الكواكب العملاقة، التي تخلق لنا رقصة، تحرك لنا الزمن نفسه. ولكن لو ضاع الاتساق، لانقلب هذا المنظر الفلكي المبهج، إلى مشهد مرعب و مفزع! إذا يصح لنا أن نقول إن الجمال يكون عندما تتسق قياسات الأنف مع العين، وتتناغم الألحان، وتتوازن مقادير الطعام. ولكن كل هذا لم يوصلنا إلى حقيقة معنى كلمة الفن!

الفن هو استخدام (الجمال) لتعبير عن الحضارة. فلو وجدت أي مجتمع يمتنع عن التعبير لبعضه بعضا، لانقرضت حضارتهم على الفور! فلولا عبور أفكارنا ومشاعرنا لبعضنا بعضا لانعدم كل معنى بالحياة. قال المفكر ملتون جلاسير "الفن هو ما يبقي الحضارة حية". يظن الناس من كلمة حضارة بأنها فورا تعني إما العصر الذهبي الإسلامي أو أهرامات الفراعنة. ولكن معنى الحضارة لغوياً أبسط من ذلك كثيرا. فهي أي مجموعة أخلاق يعيش على أساسها مجموعة من الناس. لدرجة أن حتى أفلامنا ومسلسلاتنا بل قصص ألعاب الفيديو يشملها قالب كلمة حضارة. فإنها مشتقة من كلمة الحضرة. أي إحضار فلانا مجموعة تلك الأخلاق المألوف ليقال عنه "حضرة" فلان.

فالحضارة لا تعني بالضرورة هي شيء تعتبره البشرية جمعاء باتفاق مجمعا عليه بأنه عظيم أو شريف، بل يكفي أن تكون أي معاني لها قيمة لدى مجتمع ما. وإذا ما عبر عنها أي شخص منهم بطريقة جميلة يكون قد حقق الفن، سواء بأغانٍ أو أزياء أو بالأشعار. خلاصة القول، الجمال يشغل كل هرموناتنا الحسية مع مشاعرنا النفسية باتساق، والفن يجعل كل أدمغتنا تتسق بنفس إيقاع المتعة التي تتجلى في أوركسترا العقل الجمعي للمجتمع. ها هو ذا الجمال! وهذا هو الفن وهذه هي ذي الحضارة!