"تخلف" الإسلام "مذمة" مشرفة ونبيلة

محمود إرول قليج
إسطنبول
نشر في 28.09.2022 14:55
رسم Büşra Öztürk رسم Büşra Öztürk

ربما يكون في القول بأن الإسلام متخلف شيء من الحقيقة، لأن جوهر الإسلام الذي يعطي الأولوية لمفاهيم مثل الأخلاقيات والرحمة يتعارض مع مفهوم إنتاج أسلحة الدمار الشامل.

عندما يثار موضوع الحضارة، يكثر في الأدب الغربي طرح سؤال "لماذا تخلف العالم الإسلامي عن الركب؟" وتتنوع طرق الإجابة وتكثر على هذا النوع من الأسئلة، لكن إجابة عالم الكيمياء الحيوية البريطاني جوزيف نيدهام كانت رائعة للغاية. ففي فصل من كتاب بعنوان "معرفة الشرق وعلوم الغرب" الذي تُرجم إلى التركية منذ سنوات عديدة، يقول نيدهام الخبير في تاريخ العلوم والصين، إن الصينيين عرفوا ماهية النار كما أنهم اخترعوا البارود. لكنهم لم يتمكنوا من الجمع بين الاثنين لابتكار سلاح دمار شامل، لأنهم يعتقدون برؤية فلسفية ودينية تؤمن بتقديس أصل الحياة ومضمونها تسمى "الطاوية".

وبسبب هذه النظرة "الطاوية" للعالم، لم يكن الصينيون قادرين على ابتكار شيء قاسٍ وعديم الضمير وبالتالي فإن طريقة تفكيرهم أثرت على أفعالهم. وعلى عكس أسلحة الدمار الشامل، قاموا بدمج النار والبارود لإنتاج الألعاب النارية للاحتفال بأعيادهم الدينية ما يعني أنهم ابتكروا منتجاً للترفيه والطقوس الروحية.

ووفقاً لنهج نيدهام، يمكننا أن نجد إجابة لمسألة "التخلف" في العالم الإسلامي. الواقع أنه لا بد من وجود سبب لتخلف مثل هذه الحضارة العظيمة التي ساهمت في الإرث الحضاري العالمي في مجالات لا حصر لها من الرياضيات إلى علم الفلك ومن البصريات إلى علم الاجتماع. وبالنظر إلى المساهمات العالمية للإمبراطورية العثمانية التي كانت أقوى حامل للواء للدين الإسلامي لقرون عديدة، يفقد هذا السؤال معناه وخصوصاً بعد أن ظهر في الحضارة الإسلامية علماء متعددون مثل الغزالي والخوارزمي وابن سينا وإسماعيل الجزري وعمر الخيام وغيرهم كثير.

فهل يمكننا القول إن مجتمعات الحضارات الغربية، التي نعتبرها "متقدمة" تتمتع بـ "تفوق جيني؟"

الجواب هو "لا" عند استخدام البيانات العلمية الأساسية.

ففي ذروة الإمبراطورية العثمانية، أُنتجت أدوات حربية فردية مثل الأقواس والسهام وكانت أكثر الأدوات تقدماً في تلك الفترة. ومع ذلك، لم تتطور هذه المهارات التقنية والفنية إلى صناعة أسلحة دمار شامل بمرور الوقت. ومع ذلك، نجد من المسلم به على نطاق واسع أن الحضارة الغربية قد تقدمت منذ اختراع وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ما يجعلنا نرى بوضوح فجوة بين الحضارتين في صناعة الأسلحة. وهذا التطور الذي يمكن أن نسميه تقريباً لحظة الانهيار الكامل، هو أحد الأسباب الأساسية لسؤال اليوم.

ومن هذا المنظور، فالقول بأن الإسلام متخلف قول صحيح لأن جوهر الإسلام الذي يعطي الأولوية لمفاهيم مثل الأخلاقيات والرحمة، يتعارض مع إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وقد أصبح هذا "التخلف" أحد أكبر العوامل في تغيير مصير حضارة بأكملها. نعم الإسلام "متخلف" ولكنه تخلف إيجابي بالطبع إذ لا يمكن أن يكون الإسلام ديناً بلا رحمة ولا ضمير ولا أخلاق، ولا يمكن للإسلام أن يقتل الأبرياء ولا أن يضر بالبيئة والطبيعة. فالإسلام جاء ليحرر الناس لا ليستعبدهم.

خلال فترة عملي كسفير في إندونيسيا، قرأت واستمعت إلى العديد من الحكايات التاريخية المرعبة. فقد تعرض الشعب الإندونيسي للعديد من أشكال التعذيب في تاريخه، وهولندا التي أتت إلى إندونيسيا لزيادة واردات التوابل، استعبدت وعذبت الشعب الإندونيسي. ونحن جميعاً على دراية بأنشطة تجارة الرق والاستعباد في إفريقيا على يد الدول الغربية التي كانت بحاجة إلى عمالة رخيصة للتعدين، فاستغلت حياة الأفارقة الأطفال منهم والمسنين وحتى المرضى. ولن يكون من الخطأ القول إن هذه الأنشطة الاستغلالية وما يماثلها والتي استمرت لسنوات طويلة، ساهمت في "تقدم" الحضارة الغربية.

نعم، هذا "تقدمٌ" بطريقة ما.

وعندما نفكر في الأمر على المستويين المادي والمالي، نجد المكاسب تشكل بالفعل تقدماً غير عادي. وعندما نفكر في ناطحات السحاب في نيويورك أو مترو أنفاق لندن الذي يعمل منذ قرون، نجد من الصعب ألا نصف النقطة التي وصل إليها الغرب اليوم على أنها ليست "تقدم".

لكن مثل هذا التقدم لم يكن ليحدث في نظام الفكر الإسلامي. على سبيل المثال يقول يونس إمرة، أحد أبرز الأسماء في العالم الإسلامي: "أولاً وقبل كل شيء، من المهم كسب القلوب". وهو يلخص بهذا الشعار سبب إعاقة هذا الدين لأشكال "التقدم" وطرقه التي سلكها الغرب. كما أن قاعدةً إسلاميةً أساسية تقوم على أن العامل يجب أن يُعطى أجره ومستحقاته قبل أن يجف عرقه، بينما تعتبر الهياكل الرأسمالية وغير التقليدية اليوم مثل هذه المعايير غير عقلانية.

وعند النظر إلى الجذور الدينية التقليدية للحضارة الغربية نجد قيماً مماثلة. لكن الغرب تلاعب إبان عصر التنوير بجذوره الدينية وحوّل العلمانية إلى إله. لقد ألغت العلمانية المراجع الإلهية ولم يعد يُحسب لها أي حساب. وقد وصف القرآن الكريم العلماني الذي خلقه الغرب بأنه صاحب "النفس الأمارة بالسوء" وهي عبارة تستخدم لوصف الجانب المظلم للإنسان الذي يشجع دائماً على الشر والفجور والظلم وهو جانب موجودة بالفعل في الجميع، فيصفه سيغموند فرويد جيداً في دراسته بشكل خاص للاكتئابات التي عانت منها بورجوازية فيينا في تلك الفترة، ويكشف عن البنية النفسية للرجل العلماني في أعماله.

وبالمثل، كشف كارل ماركس عن الطموحات والأفعال الاقتصادية لهذا النمط البشري الجديد. وكانت جهود ماركس لتنظيم الطبقة العاملة ضد الاضطهاد عادلة تماماً وبريئة في البداية، لكنها مع استمراره في توجيه هذه الحرب ضد الله والغيبيات انحرف عن هدفه الرئيسي. ويمكن القول إن المشاكل الأساسية تكمن في فلسفة ماركس وليس في فهمه للاقتصاد.

نهاية حتمية:

"تخلف" الإسلام كان أمراً حتمياً من وجهة نظر فلسفية ودينية، وإذا أردنا أن نسمي هذا "التخلف" هزيمة أو "مذمة" فهي مذمة مشرفة ونبيلة إذ بعد كل ما وصل إليه العالم الحديث اليوم، هل كانت هناك أية فائدة من كل ذلك "التقدم"؟

نعم، تم إحراز بعض التقدم التقني لصالح البشرية العام. لكننا بحاجة إلى وضع هذه التطورات وما يماثلها تحت سيطرة نظام القيم البشرية قبل أن يصبح من المستحيل منع وحش الطغيان من السيطرة على العالم. ويمكن للتقدم التقني أن يفيد البشرية جمعاء في ظل نظام لا يتصارع مع المقدسات ويضع الإنسان والجمالية في المقدمة.

وفيما عدا ذلك، تصبح الحياة غير قابلة للعيش يوماً بعد يوم في عالم بلا حدود يسكنه نوع بشري بلا قيود، يسحق فيه القوي الضعيف ويسود فيه الظلم الهائل.