لماذا تتبنى الولايات المتحدة وبعض وسائل الإعلام الأوروبية هذا الموقف الشرس المناهض للفلسطينيين منذ شنت إسرائيل حربها الأخيرة على غزة؟ ومن منظماتهم إلى صحفهم، يحاولون التقليل من شأن الشباب المؤيدين للفلسطينيين باعتبارهم "مشاغبين مناهضين لإسرائيل". ويحاولون تعليمهم كيفية العيش في الدول الأوروبية، كما جاء في بيان صحيفة بيلد الألمانية على سبيل المثال وليس الحصر: "منذ الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس على إسرائيل، نشهد بعداً جديداً من الكراهية في بلدنا، ضد قيمنا وديمقراطيتنا. ويجب أن نقول لا لمعاداة السامية وأن نقول أننا نحب الحياة وليس الموت.. نقول من فضلك وشكراً.. ولا نرتدي أقنعة ولا حجاباً ولا نزوّج الأطفال.. ويحب أن يقول الرجال: ليس لدي أكثر من زوجة واحدة"
ويمكن أن يكون سبب تجاهلهم لهذا الأمر ذو شقين. أولاً، إنهم يثقون في أن إسرائيل، الدولة التي أنشأها ضحايا الإبادة الجماعية، لا يمكن إدانتها من قبل أي قاض دولي يحترم نفسه، كمرتكبة لجريمة إبادة جماعية. ثانياً، ادعاء إسرائيل، بدلاً من الدفاع القانوني، بأن عملياتها رداً على غارة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول على الأراضي التي تحتلها إسرائيل كانت متناسبة ومحدودة، واستهدفت أعضاء حماس فقط، رددها جميع المراسلين وكتّاب الأعمدة ومذيعو البرامج التلفزيونية ومشرفو التحرير حرفياً بالفعل.
لقد بدأت وسائل الإعلام الغربية تضخ التقارير الإسرائيلية حول كيفية قيام حكومة بنيامين نتنياهو بتفكيك "الإطار العسكري" لحماس في شمال غزة، بينما "قتلت ما بين 8000 إلى 9000 من مقاتلي حماس منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. أي ليس الأطفال والنساء بل مقاتلي حماس! وعندما بدأ قضاة محكمة العدل الدولية مداولاتهم، فإن كل ما يتعلق بالحرب و"الأضرار الجانبية التي لا يمكن تجنبها من الناحية الفنية" تم نسيانه.
كما تم التعبير عن "عدم إمكانية إدانة" إسرائيل في قضية إبادة جماعية بقوة، وبمراتٍ عديدة لدرجة أنها تكاد تكون حقيقة عالمية: لا تستطيع محكمة العدل الدولية إدانة الضحية الوحيدة للإبادة الجماعية، الشعب اليهودي. خاصة وأن "الإبادة الجماعية" أصبحت بفضل العصر الحديث "جريمة بلاغية"! بدليل أن أنطون فايس-فيندت، الأكاديمي والمؤرخ النرويجي المتخصص في التاريخ اليهودي من جامعة برانديز والذي يعمل في مركز دراسات المحرقة والأقليات الدينية منذ عام 2006، يلقي باللوم في ذلك على الخطاب الجيوسياسي للحرب الباردة.
ويرى باحثون آخرون أن المعارك القومية والقبلية في أفريقيا، حيث يلقي كل طرف اللوم على جاره الآخر في الإبادة الجماعية، حتى في المشاجرات عبر الحدود، تجعل المفهوم يفقد جديته. وربما لهذا السبب، قال نتنياهو، كرد فعل أولي على طلب جنوب أفريقيا المقدم إلى المحكمة، إن اتهامات بريتوريا كانت بمثابة "قذف دم". وتتهم إسرائيل جنوب أفريقيا "بالتعاون مع جماعة إرهابية" تسعى إلى تدمير إسرائيل، تماماً كما اتهمت العديد من الدول المجاورة خلال فترة التأميم ما بعد الاستعمار في أفريقيا.
وصرح رافائيل ليمكين، الذي صاغ هذا المصطلح وقام بحملة من أجل تجريم الإبادة الجماعية في القانون الدولي، بوضوح أن هدفه جزئياً، كان حماية التنوع الثقافي البشري: "إن العالم لا يمثل سوى القدر من الثقافة والقوة الفكرية التي تخلقها حضارته والمجموعات القومية المكونة له... وبالتالي فإن تدمير الأمة يؤدي إلى فقدان مساهماتها المستقبلية في العالم".
دروس من محاكمة القادة الصرب
أظهرت محكمة العدل الدولية، وخاصة بعد محاكمة الزعماء الصرب عن الجرائم التي ارتكبوها أثناء حروب البوسنة، ميزات تحديد ما إذا كانت الدولة ترتكب جريمة إبادة جماعية أم لا وصنّفتها على النحو التالي:
- قتل أفراد الجماعة.
- التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأفراد المجموعة.
- إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
- فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة.
– نقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى.
دفاع إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية
وأي شخص بخلاف المنحازين، يمكنه بسهولة رؤية كل هذه السمات الخمس في تصرفات ورواية المسؤولين الإسرائيليين وتصرفات جيش الدفاع الإسرائيلي. ويشير مقال فيلدمان الأخير بعنوان "قضية الإبادة الجماعية في غزة أمام محكمة العدل الدولية: جنوب أفريقيا على وشك اكتشاف قانون العواقب غير المقصودة" إلى دفاع إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
وتدافع إسرائيل عن نفسها بالوقوع في مغالطة منطقية تسمى "Tu quoque" وتعني باللاتينية "أنت أيضاً"، حيث يدافع المرء عن نفسه ضد الحجة من خلال إعادتها إلى المتهم: الرد على النقد بالنقد. وتتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، لكن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ارتكب الإبادة الجماعية بنفسه! ويفعل الأشقاء ذلك عندما يوبخهم الوالدان: "لكن أمي! أختي تفعل ذلك أيضاً!"
وقد لجأ فريق الدفاع الإسرائيلي إلى حجة "هو فعل ذلك أولاً" بشأن حماس. موضحاً إن حماس "تتعهد في ميثاقها وفي أفعالها وكلماتها، بقتل كل يهودي في المنطقة، وهو تعريف الإبادة الجماعية حرفياً... وقد صرحت حماس علناً بأنها ستفعل ذلك".
ومردداً: "ما زالت حماس تحتجز الرهائن... حماس تغتصب وتعذب وتختطف النساء... إلخ".
وحتى لو وجد قضاة محكمة العدل الدولية أن هذا الدفاع يتمتع بالمصداقية، فمن المحتمل أن يقولوا ما قد يقوله الوالد المسؤول لتلك الطفلة: ربما فعلت ذلك! لكن هذا ليس عذراً لأفعالك الملخصة في العناصر الخمسة المذكورة أعلاه.
من المعروف والمشاهد أمام أعين الجميع أن إسرائيل تنفذ سياسة "العقاب الجماعي" منذ الأشهر الثلاثة الماضية. وقد أثبت الجيش الإسرائيلي أنه قادر على تنفيذ ضربات جراحية، كما فعل في عمليته التي استهدفت نعيم قاسم، الرجل الثاني في قيادة حزب الله الملقب بنائب الأمين العام، وسط حي لبناني مزدحم دون الإضرار بأي مدنيين أثناء العملية.