حاجة تركيا إلى نظام سياسي جديد

فادي فراسين
اسطنبول
نشر في 07.06.2016 00:00
آخر تحديث في 07.06.2016 16:19
حاجة تركيا إلى نظام سياسي جديد

منذ تأسيس الجمهورية شهدت تركيا ثلاثة دساتير، أربعة إنقلابات عسكرية، و خمسة و ستون حكومة و كل هذا في أقل من قرن من الزمان مما يدل بشكل لا لبس فيه ان هناك خللاً في المنظومة السياسة

تتبنى تركيا رؤية طموحة بأن تتبوأ مكانة ضمن أكبر 10 اقتصادات في العالم، وأن تتخلص من مصيدة الدول متوسطة الدخل واللحاق بركب الدول مرتفعة الدخل ليصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 25 ألف دولار، وكذلك أن تصبح لاعباً رئيسياً في السياسة العالمية ومساهماً رئيسياً في تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي. وبالإضافة إلى ذلك تطمح تركيا إلى أن تطوي صفحة الديمقراطية المنقوصة وإستكمال مرحلة التحوّل نحو الديمقراطية الناضجة والمكتملة. وتتطلع تركيا إلى تحقيق رؤيتها الطموحة هذه بحلول عام 2023، لكن العقبة العنيدة التي تواجهها على هذا الصعيد تتمثل في نظامها السياسي؛ لا يمكن لرؤية تركيا أن تتجسد على أرض الواقع دون تبني دستور جديد و نظام رئاسي وعدا ذلك سوف تبقى رؤية تركيا أحلام بعيدة المنال.

الدستور التركي الحالي هو إرث قديم وضعته نخبة من العسكر والبيروقراطيين في أعقاب الإنقلاب العسكري الذي تزعمه الجنرال كنعان إفرَن عام 1980، حيث كان الهدف منه تمكين العسكر من إحكام قبضتهم على النظام السياسي. وعلى الرغم من رحيل كنعان إفرَن، إلا أن دستوره ما زال للأسف قائماً حتى يومنا هذا بكل القيود التي يكبل فيها تركيا وهي تسعى إلى اللحاق بركب التطور في القرن الحادي والعشرين.

تتفق جميع الأحزاب في تركيا على ضرورة وضع دستور جديد للبلاد، إلا أن اللجنة الدستورية في البرلمان التركي- التي تشكلت خلال المرحلة التشريعية السابقة و المُشكلة من ثلاثة ممثلين عن كل حزب – فشلت في صياغة دستور جديد بعد مداولات استمرت على مدى سنتين. والأدهى من ذلك أن محاضر اجتماعات اللجنة البرلمانية الدستورية كشفت عن عدم جدية مساعي أحزاب المعارضة في تركيا لوضع دستور جديد. وقد إتضح هذا أكثر عندما رفض حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري (CHP)، تمرير 60 مادة كانت اللجنة البرلمانية الدستورية قد وافقت عليها بإجماع الأصوات على الرغم من الدعوات المتكررة لقبولها و التي وجهها رئيس الوزراء آنذاك السيد رجب طيب أردوغان.

أحزاب المعارضة التركية ترفض رفضاً قطعياً مناقشة أي نظام رئاسي حتى دون أن تدخل في أية نقاشات جوهرية حول النظام الأنسب للسياق والواقع التركي، أو مناقشة اختيار النظام الأكثر قدرة على حماية الحقوق الأساسية والحريات ومبدأ الفصل بين السلطات. بل تصرّ أحزاب المعارضة على أنه لا بديل لتركيا عن النظام البرلماني الحالي. لكن هذا الجدل ليس سوى مناورة من أحزاب المعارضة لإحباط أية مساعٍ لوضع دستور جديد تحتاجه تركيا وتستحقه. في الواقع، عند دراسة النظام السياسي التركي الحالي عن كثب، لا يمكننا أن نعتبره نظاماً برلمانياً محضاً أو نظاماً رئاسياً أو حتى نظاماً شبه رئاسي، بل هو خليط معقد من هذه الأنظمة جميعها. وهذا يفسر لنا سبب فشل محاولات إصلاح هذا الدستور العسكري و جعله ملائماً للواقع التركي على الرغم من تعديله 17 مرة على مدى ثلاثة عقود ونصف تقريبًا. علاوة على ذلك، كيف يمكننا الحديث عن نظام برلماني محض في حين تنص التعديلات الدستورية التي أُجريت عام 2007 على انتخاب رئيس تركيا مباشرة من قبل الشعب!

إن السبب الرئيسي الذي يكمن خلف ضرورة تحوّل تركيا إلى النظام الرئاسي هو تعزيز الديمقراطية من خلال التخلص من رواسب الرقابة العسكرية والوصاية البيروقراطية، ومن خلال سدّ الفجوة القائمة بين الشعب والدولة؛ تلك الفجوة التي تكرست منذ تأسيس الجمهورية التركية. كما أن طبيعة النظام السياسي الحالي في تركيا بتركيبته المتداخلة من السلطات التشريعية والتنفيذية يحول دون ممارسة البرلمان لمهامه الرئيسية المتمثلة في الرقابة على الحكومة وضبط صلاحيات السلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن أي تحوّل نحو النظام الرئاسي من شأنه أن يضمن فصلاً حقيقياً بين السلطات ليشكل بذلك حجر الأساس في ترسيخ ديمقراطية فاعلة وحقيقية.

عند الحديث عن السلطة التنفيذية في تركيا، يتمثل الإشكال القائم فيها في أنها سلطة برأسين مما يتيح المجال أمام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء أن يتعدى كل منهما على سلطات الآخر ويشكل أرضية خصبة لسوء الفهم والاختلاف والتوتر. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخلاف الأخير الذي نشأ بين رئيس الجمهورية السيد رجب طيب أردوغان و رئيس الوزراء السيد أحمد داود أوغلو، والتاريخ السياسي لتركيا ككل، يمكن للمرء أن يستنتج بسهولة أن اقتسام السلطة التنفيذية بين رأسين سيؤدي إلى حدوث خلل دائم في السلطة التنفيذية ويوصلها إلى طريق مسدود في نهاية المطاف.

منذ وصول حزب العدالة والتنمية (AKP) للحكم وتفرده بها عام 2002، لم تعد مسألة الاستقرار السياسي مدعاة قلق كبيرة بالنسبة للكثيرين، لكن يجب ألا ننسى أن الاستقرار السياسي الذي جاء مع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى الحكم هو الاستثناء وليس القاعدة في التاريخ السياسي لتركيا التي لطالما تميزت بالاضطراب السياسي والأزمات الحكومية والحكومات قصيرة العمر. ولعل الإنتخابات التي جرت في السابع من يونيو/حزيران 2015 تذكرنا مرة أخرى باحتمالات عدم الاستقرار حيث لم يحصل أي حزب حينها على الأغلبية البرلمانية المطلوبة لتشكيل حكومة منفردة، وفشلت الأحزاب السياسية في تشكيل ائتلاف حكومي. وأمام هذا الطريق المسدود، أُجبرت تركيا على التوجه مجدداً إلى صناديق الاقتراع في الأول من نوفمبر/تشرين ثاني من العام ذاته. ولحسن الحظ، تمخضت الجولة الثانية من الانتخابات عن تشكيل حكومة، لكن السؤال الذي ما زال يطرح نفسه و بشدّة: ماذا لو جاءت نتيجة انتخابات الأول من تشرين ثاني/نوفمبر مشابهة لانتخابات السابع من يونيو/حزيران ولم تتمكن الأحزاب من تشكيل الحكومة؟ ما زال المعارضون للنظام الرئاسي عاجزين عن تقديم إجابة مقنعة لهذا السؤال.

من الانتقادات الأكثر شيوعاً في النقاشات التي تدور حول ضرورة تغيير النظام السياسي في تركيا إلى النظام الرئاسي تتمثل في أن التحوّل إلى نظام رئاسي سيجعل من تركيا دولة شمولية؛ بل يذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك في شخصنة هذه المسألة من خلال الربط بين النظام الرئاسي ورغبة السيد أردوغان في الاستحواذ على مزيد من السلطة. لكن هذا الانتقاد مخطئ في جانبين اثنين: أولاً، تطبيق نظام رئاسي لا يعني حكماً استبدادياً. ففي الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وكوريا الجنوبية- على سبيل المثال- هناك نظام رئاسي وفي الوقت ذاته أنظمة ديمقراطية حية. ومن جهة أخرى، هناك دول كثيرة تطبق النظام البرلماني لكنها بعيدة كل البعد عن القيم الديمقراطية العالمية. ثانياً، من الخطأ شخصنة الأمور وتسفيهها من خلال ربطها برغبة السيد أردوغان في الاستحواذ على السلطة، فالنقاشات الدائرة حول ضرورة التحوّل إلى نظام رئاسي لم تبدأ مع أردوغان بل كانت قد بدأت مع قدوم الرئيس الثامن لتركيا تورغوت أوزال واستمرت بعد تسلّم خليفته للحكم الرئيس سليمان ديميريل.

يعاني النظام السياسي التركي من معضلات مزمنة، وهو في أمس الحاجة إلى دستور مدني وديمقراطي حديث، وسلطة تنفيذية فعالة، وسلطة تشريعية مستقلة قادرة على ضبط السلطة التنفيذية وتحقيق التوازن فيها. وكلّما أسرعت أحزاب المعارضة في هجر النقاشات حول الشكل و المسميات و لحقت بركاب الشعب التركي في الخوض في المضمون و الجوهريات كان ذلك أفضل لتركيا و أجدى.