روايات مروعة من داخل "غرف الملح" في سجون الأسد

ديلي صباح ووكالات
إسطنبول
نشر في 21.09.2022 17:51
آخر تحديث في 22.09.2022 09:15
خريطة تظهر مواقع غرف الملح في سجن صيدنايا سوريا AFP خريطة تظهر مواقع غرف الملح في سجن صيدنايا سوريا (AFP)

جثث نحيلة ضعيفة ملقاة في كل مكان تجمدت خوفاً ووقفت مذهولاً، إنه هذا عذاب من نوع آخر.. كان هذا حال المدعو "عبدو" صاحب الـ 30 عاماً، عندما دفعه أحد حراس سجن "صيدنايا" في غرفة عجيبة لم يرها من قبل، فإذا به يقف حافي القدمين فوق كومة من الملح الصخري.

بدأت هذه القصة في يوم من شتاء عام 2017، ولم يكن "عبدو" قد ذاق الملح منذ أن وطأت قدماه هذا السجن سيئ السمعة الواقع قرب العاصمة دمشق، حيث لا يحصل السجناء على الملح في طعامهم، فراح المعتقل يغرف منه ويستمتع بمذاقه الذي اشتاق له.

ثم كانت المفاجأة، الغرفة بالكامل يغطيها الملح وداخلها جثث... يصف عبدو (وهو اسم غير حقيقي بسبب خوفه من بطش الأسد لعائلته التي مازالت تقطن أماكن خاضعة لسيطرة النظام)، التجربة بأنها الأكثر رعباً في حياته داخل السجن.

ولسجن صيدنايا عدة ألقاب يصفه بها معتقلون ذاقوا المرار بداخله، منها القبر، ومعسكر الموت، والسرطان.

ووفقاً لرابطة معتقلي ومفقودي سجن "صيدنايا"، فغرف الملح هي قاعات لحفظ الجثث، التي تسقط يومياً بسبب التعذيب الشديد بالتزامن مع ظروف الاعتقال السيئة، وبدأ استخدامها منذ عام 2011 مع بدء شرارة الثورة وازدياد أعداد القتلى داخل السجون.

وبحسب اللقاءات التي أجرتها وكالة الأنباء الفرنسية مع معتقلين سابقين، يوجد في سجن صيدنايا غرفتي ملح على الأقل، تحفظ فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، بينما يمنع السجانون على المساجين وضع الملح في الطعام وذلك لإضعاف أجسادهم الهزيلة.

وعلى ما يبدو أن إدارة السجن قد لجأت لاستخدام الملح حتى تتأخر عملية تحلل الجثث.

شهادات صادمة:

ويقول عبدو: "بداية قلت الله لا يوفقهم، لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟".

وأوضح أنه بعد تناول كمية جيدة من الملح توجه إلى الحمام لقضاء حاجته في إحدى زوايا الغرفة، ليتعثر أثناء خروجه منه بالجثة الأولى، واستدرك: "دُست على شيء بارد، لقد كانت أرجل إنسان".

في هذه اللحظة توقف العالم عند عبدو، وتجمد في مكانه من الخوف بعدما رأى ثلاث جثث ملقاة على الملح، وتغطي أجزاء منهم بكميات لا بأس بها من الملح، وهنا بدأت قدماه ترتجفان.

وأردف عبدو الذي اتخذ من لبنان مسكنا له بعد خروجه من السجن: "ظننت أن هذا سيكون مصيري أيضاً، وأنه حان دوري لإعدامي وقتلي، فعلياً لم أكن قادراً على الحركة، جلست بالقرب من الحائط وبدأت بالبكاء وتلاوة القرآن، مات قلبي".

ولمدة ساعة ونصف كاملة لم يتحرك عبدو من مكانه، ليُبين أن هذا كان أصعب ما رأه في صيدنايا خلال العامين اللذين قضاهما فيه، وشعر أن عمره انتهى.

طبيعة الغرف

ويصف عبدو الغرفة بأنها مستطيلة، تقدر بستة أمتار عرض وسبعة أو ثمانية طول، وأن أحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي.

وزاد بأن الغرفة تقع في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه ثلاثة أجنحة.

ثم جاء السجان، وهنا توقف نفس عبدو من الخوف، لكنه وضعه في سيارة لنقله، وهنا تأكد أنه في طريقه إلى المحكمة.

ويضيف عبدو أنه أثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس سوداء اللون فارغة ومكدسة، ليتذكر أنها نفس الأكياس التي نقل فيها جثث معتقلين آخرين بأمر من حراس السجن.

أُفرج عن عبدو عام 2020 من هذه المقبرة، لكنه قلبه قد مات هناك، ولم يعد يؤثر به شيء حسب قوله، رغم علمه بموت شقيقه داخل السجن، لكن وقع الأمر كان عادياً بالنسبة له.

ويقول: "بسبب التعذيب الشديد والضرب والموت الفعلي الذي رأيته، كل شيء بات عادياً".

موت بالتقسيط

معتصم عبد الساتر البالغ من العمر 42 عاماً، يكشف عن تجربته في غرفة الملح، الواقعة في نفس الطابق الذي حكى عنه عبدو، حيث يقول: "دخلت هذه الغرفة في إبريل/نيسان عام 2014، عرضها 4 أمتار وطول 5 أمتار ولا يوجد بها حمام، شعرت حينها بأن قلبي سيخرج من مكانه من شدة الخفقان، حتى نادى عليه السجان ليطلق سراحه".

ولا يزال عبد الساتر يتذكر كافة تفاصيل ذلك اليوم، الذي بدأ بوجبة إفطار من قطعة خبز وثلاث حبات زيتون، ثم بدأ بتوديع رفاق سجنه وسار خلف السجان فرحاً على أمل إطلاق سراحه، لكنه فوجئ بطلب الأخير منه الدخول إلى تلك الغرفة التي لم ير مثلها من قبل.

ويقطن عبد الساتر الآن بمدينة الريحانية في الجنوب التركي، ويضيف: "غرقت قدمي في مادة خشنة، نظرتُ فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتمتراً".

وأشار إلى أن نوعية الملح هي نفسها التي اعتاد أن يراها في شوالات على جانبي الطرق في فصل الشتاء، وتستخدمه السلطات لتذويب الثلج المتراكم في الشوارع.

وتذوق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على أربع أو خمس جثث ملقاة في المكان.

ويقول بألم: "شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال نفسها، قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم، أنا أساساً أشبههم".

ولفت معتصم أنه عندما دخل السجن في العام 2011، كان وزنه 98 كيلوغراماً، لكنه خرج منه بوزن لا يتجاوز 42 كيلوغراماً.

وأردف: "كانت الجثث تشبه المومياء، وكأنها محنطة، كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسوٍ باللحم يمكن أن يتفكّك في أي لحظة".

وأضاف: "كان الملح يذوب من تحتي من شدة تصبّب العرق مني. بقيت في الغرفة ما بين ثلاث إلى أربع ساعات تقريباً، كنت أموت خوفاً".

ويضيف المعتقل السابق الذي لا زال يتذكّر أسماء أصدقاء توفوا إلى جانبه في المهجع بسبب الضرب المبرح والأمراض، ليعترف قولاً: "ليست الجثث ما أثّرت بي، بل فكرة أنني بتّ أنتظر إعدامي".

من شدة الخوف، تبوّل معتصم في الغرفة، ثم سارع إلى تغطية البول بالملح حتى لا يعرف الحارس.

الموت في كل مكان

ويشير المعتقلان السابقان إلى عدم انبعاث أي رائحة كريهة من الغرفتين، والى أنهما لم يتمكنّا من تحديد سبب وضعهما فيهما لبعض الوقت.

ويقول معتصم: "قد يكون ذلك لإخافتنا".

وليس واضحاً ما إذا كانت الغرفتان استخدمتا في الوقت ذاته كغرفتي ملح في العامين 2014 و2017، أو إذا تمّ استبدال واحدة كما ليس معروفاً ما إذا كانت تلك الغرف لا تزال موجودة.

وبناء على شهادات معتقلين وموظفين سابقين في السجن، تعتقد رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن أول "غرفة ملح" وُجدت في النصف الثاني من العام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن.

ويقول الشريك المؤسس في الرابطة دياب سرية من مكتب الرابطة في غازي عنتاب التركية: "تمكننا من تحديد غرفتي ملح على الأقل، وكل منهما استخدمت لتجميع جثث الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب او توفوا جراء الأمراض أو عمليات التجويع".

ويضيف أنه كان يتمّ الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع الى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لتأخير تحلّلها.

ثم تُترك الجثث يومين داخل غرف الملح في انتظار تجميعها قبل نقلها إلى المستشفى العسكري لتوثيق الوفاة ثم إلى مقابر جماعية.

ويرى سرية أن الهدف من الملح هو حفظ الجثث، لأنه يمتص السوائل والإفرازات ويحول دون أن تفوح رائحتها، وذلك لحماية السجانين وإدارة السجن من البكتيريا والأمراض".

ويضيف: "هناك الكثير من الموت في صيدنايا لكن ليست لديهم برادات للموتى"، مشيراً أيضاً إلى صعوبة نقل الجثث يومياً إلى خارج السجن خصوصاً في فترات اشتدت فيها المعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة في الفترة بين 2013 و2017.

ويوضح الأستاذ المساعد في علم التشريح في جامعة "بوينت لوما" في كاليفورنيا جوي بلطا أن للملح القدرة على تجفيف أي نسيج حي عبر امتصاص المياه، ما يقلّل من تكاثر الميكروبات، مشيراً إلى أنه يمكن حفظ الجثة في الغرف الباردة لأسابيع من دون أن تُظهر علامات تحلّل، فيما يتيح الملح فترات حفظ أطول.

وعلى حد قوله الملح أحد مكوّنات عمليات التحنيط التي اشتهر بها الفراعنة، إذ كانت توضع الجثث داخل محلول يُسمى "النطرون"، ويتألف أساساً من ملح كربونات الصوديوم.

ويُعتقد أن الملح الصخري في صيدنايا يُستقدم من سبخات جبول في محافظة حلب، وهي الأكبر في سوريا.

ليس ثقباً أسود

وتقرير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا هو الدراسة الأولى والأكثر تفصيلاً حتى الآن حول الهيكلية الإدارية للسجن وآليات عمله وعلاقاته التنظيمية.

ويقدم التقرير الذي يعتمد على مقابلات مع عشرة معتقلين سابقين و21 عنصراً من الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، شرحاً دقيقاً للبنية الإدارية والألوية العسكرية العاملة في صيدنايا، فضلاً عن خلفية عن مدرائه كافة.

ويقول سرية: "أراد النظام أن يكون هذا السجن ثقباً أسود، وألا يعرف أحد عنه شيئاً، هدف تقريرنا أن يقول العكس، ليس ثقبا أسود، بل هو جهاز من أجهزة الدولة محكوم بقوانين وعلاقات تنظيمية، وهو أيضاً معسكر موت".

معتقلو صيدنايا

وروى معتقلون سابقون لوكالة الأنباء الفرنسية، كيف توفي زملاء لهم في المهاجع بسبب التعذيب والضرب والمرض.

وتقدّر الرابطة أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ اندلاع الثورة في عام 2011، أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصا أنه نادراً ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.

التعذيب بالجوع

وأكد عدد من المعتقلين السابقين أن من أكبر عمليات التعذيب التي تعرضوا لها كانت في الجوع الدائم إلى جانب الضرب والمرض والتعذيب البدني، بسبب النقص الكبير في الطعام الذي كان عبارة عن حبة بطاطس أو بيضة مسلوقة، أو قليل من الأرز أو البرغل، الذي كان يتشاركه أكثر من شخص.

إلى جانب ذلك فإن الملح كان يغيب تماماً عن كمية الطعام القليلة، ما أثر على المعتقلين صحياً، فكانوا يشعرون بالصداع الدائم والتعب وعدم التوازن، ولتعويض الملح كان المعتقلون يشربون كميات كبيرة من المياه بداخلها نواة زيتون مالح بعض الشيء.

عشرات الجثث تستخرج من غرفة الملح

ويروي قيس مراد البالغ 36 عاماً، الذي عانى من مرض السل حتى بعد الإفراج عنه في 2014، بأنه أمضى ساعات طويلة يستخرج حبيبات الصوديوم من مسحوق غسيل الثياب.

وأضاف أنه في أحد أيام صيف 2013، استدعي قيس للزيارة وعند دخوله غرفة الانتظار، دعس على مادة خشنة، قبل أن يتوجه إلى الحائط ويجثو على ركبتيه، وهي القاعدة خلال وجود الحراس في الغرفة.

وبينما كان ينتظر، استرق النظر ورأى الحراس يكدسون أكثر من عشر جثث فوق بعضها.

وبين أنه في اليوم ذاته، عاد زميل له من الزيارة وأخرج من جيبه وجواربه كميات من الملح الصخري قال إنه أتى بها من غرفة انتظار مفروشة بالملح.

ويُرجّح قيس أن تكون هي الغرفة ذاتها التي رأى فيها الجثث.

ويقول قيس المقيم في غازي عنتاب التركية: "منذ ذلك الحين، بتنا حريصين على ارتداء سراويل فيها جيوب وكذلك جوارب علّهم يضعوننا في الغرفة ذاتها، لكن ذلك لم يتحقّق".

وأردف: "أول مرة أكلنا فيها البطاطا المسلوقة مع هذا الملح، كان طعماً خيالياً".

ويتذكر محمّد فارس (34 عاماً) الذي أمضى سبع سنوات في سجون النظام بينها عامان وخمسة أشهر في صيدنايا، صديقاً له عاد في أحد أيام نيسان/أبريل 2014 الى الزنزانة محملاً بالملح في جيوبه.

وأوضح له هذا الأخير أن الحراس طلبوا منه ومن معتقل آخر وضع جثث في أكياس داخل غرفة مفروشة بالملح.

لم يتوقف فراس وأصدقاؤه كثيراً عند وجود الجثث داخل الغرفة، ويقول عبر الهاتف من ألمانيا "سعادتنا كانت تكمن في الملح، كان ثروة كبيرة".

حلقة لا تنتهي من الظلم والقهر والموت المهين داخل سجن صيدنايا، الذي ما زال يضم آلاف المعتقلين المجهول مصيرهم حتى الآن.

حكايات مروعة وشهادات يشيب لها الشعر، لن تمحى من ذاكرة المعتقلين السابقين مهما مر الزمان، لأن ما حدث بداخله هي جرائم كبرى ضد الإنسانية.