السلطان عبد الحميد الأول.. السلطان العثماني القوي

إسطنبول
نشر في 25.03.2022 16:05

ولد السلطان عبد الحميد الأول في 7 يناير/كانون الثاني 1725 وهو السلطان العثماني السابع والعشرون والخليفة الإسلامي الثاني والتسعون. عُزل والده عندما كان عبد الحميد في الخامسة من عمره وتوفي عندما كان عمره 11 عاماً.

عاش حياة مريحة نسبياً لسنوات عديدة وانتظر دوره في القصر لتولي العرش. وفي غضون ذلك تلقى تعليماً جيداً، وإن لم يكن بقدر ما حصل عليه شقيقه الأكبر السلطان مصطفى الثالث.

اعتلى السلطان عبد الحميد العرش عن عمر 49 عاماً في 21 يناير/كانون الثاني 1774، بعد وفاة أخيه الأكبر. وكان مليئاً بالإصرار على إعادة الإمبراطورية العثمانية إلى مجدها السابق. ومع ذلك، دخلت الدولة العثمانية أحلك فتراتها في عهده، حيث استمرت الحرب العثمانية الروسية، التي بدأت عام 1768 لحماية استقلال بولندا، وتسببت بالمآسي ونقص الطعام في العاصمة، لدرجة أن الجنود لم يُمنحوا إكراميات اعتلاء السلاطين العرش.

الخسارة الأولى

عندما اقترب الجيش الروسي من شومن في بلغاريا ومرض الصدر الأعظم محسن زاده محمد باشا حزناً، قبلت روسيا طلب العثمانيين من أجل السلام. ومع توقيع المعاهدة في عام 1774 في مقر الجيش الروسي في كوتشوك كاينارجا في بلغاريا اليوم، وافق العثمانيون على استقلال شبه جزيرة القرم التي كانت أرضاً عثمانية عمرها 3 قرون. وكان من المقرر دفع تعويضات الحرب لروسيا كي تصبح هي الضامن للأرثوذكس في الدولة العثمانية. وبهذه الطريقة، بدأت روسيا في التسلل إلى البلقان.

وبعد أيام قليلة، توفي الوزير الأعظم. وبالرغم من عدم وجود خسارة كبيرة في الأراضي، كانت هذه المعاهدة واحدة من أكثر المعاهدات التي وقعها العثمانيون كارثيةً إذ لم يعد البحر الأسود "تركياً". وأصبح مصير بولندا في أيدي روسيا التي قسمتها بهذه الطريقة.

وسلط نهج روسيا تجاه أوروبا الوسطى الضوء على الصراع الألماني السلافي الذي استمر لمدة قرنين من الزمان. وتسبب التنافس العبثي بين الدولتين الألمانيتين وحيرة فرنسا والمصالح الذاتية الجشعة لانجلترا وهولندا، في سلسلة من الأحداث التاريخية التي زعزعت استقرار أوروبا.

وبهذه المعاهدة أنهى المستشرق والمؤرخ النمساوي جوزيف فون هامر التاريخ العثماني، بينما بدأ المؤرخ العثماني جودت باشا تاريخه بهذه المعاهدة. وحتى لو كانت المعاهدة غير مناسبة للعثمانيين سياسياً، لكنها تحتوي أيضاً على نصر دبلوماسي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يضيع فيها مكان مثل شبه جزيرة القرم، سكانها مسلمون بالكامل.

وأعلن المندوبون العثمانيون أن القرم تتبع الخليفة المسلم دينياً، وأصبح المسلمون الذين يعيشون في الأرض العثمانية السليبة في شبه جزيرة القرم خاضعين للخليفة وشيخ الإسلام في إسطنبول دينياً وقانونياً لمدة قرن ونصف. وبهذه الطريقة أتيحت الفرصة للعثمانيين للحفاظ على الاتصال بهم.

الرياح الروسية في شبه جزيرة القرم

بعد 4 أعوام انتهت الحرب التي بدأت مع غزو الإيرانيين للبصرة عام 1775 دون أن يكسب أي من الجانبين شيئاً. ونظراً لخطر زيادة الأنشطة الروسية على حدود القوقاز، أمر السلطان عبد الحميد الأول بتحصين بعض القلاع في القوقاز.

وفي القرم، انقسم الناس إلى قسمين مؤيدين للعثمانيين ومؤيدين للروس. وعيّن الروس شاهين جيراي مسؤولاً عن شبه جزيرة القرم. وعندما تدخل شاهين جيراي في انتخاب الأمراء الرومانيين، بدت حرب جديدة تلوح في الأفق، لكن فرنسا منعت اندلاعها. وتم التوقيع على معاهدة أيناليكافاك عام 1779. وكجزء من المعاهدة، لم تتدخل روسيا في انتخاب الأمراء الرومانيين، كما تخلى السلطان العثماني عن حقه في تعيين حكام القرم الذين صار اختيارهم يتم من قبل السكان المحليين.

وكان شاهين جيراي الذي عاش في بطرسبورغ لبضع سنوات، معجباً بالثقافة الروسية. وكان يرتدي زياً روسياً ويسافر بعربة بدلاً من حصان. كما اعتاد أن يقيم الأعياد للأوروبيين ويتابع كل كلمة للسفير الروسي. وعندما صادر الأوقاف في البلاد قام الوطنيون بخلعه واختاروا بهدير جيراي مكانه. فرّ شاهين جيراي إلى بطرسبورغ، ما منح الروس الفرصة التي كانوا يبحثون عنها. فغزا الجيش الروسي بقيادة شاهين جيراي القرم عام 1783.

استعد الجيش العثماني للحرب على حدود القرم، وأعدم سفير شاهين جيراي الذي احتج على ذلك. وبعد أن استغل الروس الموقف وغزو القرم، ضمت الأرض التي كانت تابعةً للعثمانيين لمدة 3 قرون إلى روسيا كمقاطعة عادية. وفرّ شاهين جيراي الذي كان يعتقد أنه سيبقى على العرش حتى وفاته، إلى إسطنبول ونفي بعد ذلك إلى رودس وأُعدم هناك.

مرحلة صاخبة

وصلت إمبراطورة روسيا كاترين الثانية المعروفة أيضاً باسم كاترين العظيمة، وهي عدو شرس للعثمانيين وعاشقة متيمة للبيزنطيين، إلى شبه جزيرة القرم عام 1787. وأقامت استعراضاً تحت قوس النصر الذي يحمل عبارة: "الطريق البيزنطي" مع الإمبراطور النمساوي جوزيف الثاني الذي جاء للزيارة والمشاركة بالاستعراض. وأعلنت أن من أقسم لها بالولاء يمكن أن يبقى، ومن لم يبايعها يجب أن يغادر البلاد.

ونظراً لأنها ابتلعت شبه جزيرة القرم بسهولة، فقد استفزت الشعب الأرثوذكسي للثورة، مما تسبب في مشاكل في رومانيا وجورجيا اللتين كانتا تحت الحكم العثماني. واندلع تمرد كبير وصل حتى الإسكندرية. وكان التوازن السياسي في أوروبا قد تغير، فوقفت فرنسا وروسيا والنمسا مع بعضها، وانحازت بروسيا وإنجلترا إلى جانب العثمانيين.

وتوصلت روسيا والنمسا إلى اتفاق أطلق عليه اسم المشروع اليوناني، يقسم الأراضي العثمانية التي أخذوها فيما بينهم، على أن تكون والاشيا وبلغاريا وتراقيا وإسطنبول للروس، بينما تم التنازل عن والاشيا الصغرى والبوسنة والهرسك وألبانيا والبيلوبونيز وصربيا إلى النمسا. كما أُعطيت مصر وسوريا لفرنسا والجزائر لإسبانيا وليبيا وتونس إلى بريطانيا. وأصبح الدوق الأكبر قسطنطين وهو حفيد القيصر، إمبراطوراً بيزنطياً وتعلم الأمير الشاب اللغة اليونانية.

أفضّل الموت!

تسبب فقدان القرم في إثارة حزن شديد في الرأي العام. وأصبحت استعادة شبه جزيرة القرم المبدأ الأول للسياسة العثمانية، لكنها تسببت في كوارث كبيرة.

وبناءً على خطة روسيا والنمسا لتقسيم الإمبراطورية العثمانية، كان السفير الروسي في إسطنبول الأمير غريغوري بوتيمكين، يضغط على الباب العالي للحصول على امتيازات جديدة. ومن ناحية أخرى، كانت إنجلترا وبروسيا تشجعان الحكومة العثمانية على خوض الحرب لمصلحتهما الخاصة. ولم يكن السلطان عبد الحميد من مؤيدي حرب جديدة، لكن وجهاء من الحكومة خدعوه بقولهم إن السفن الروسية تقترب من إسطنبول ودفعوا الدولة إلى حرب جديدة بالرغم من أن البلاد لم تكن على استعداد كافي لتلك الحرب إذ أنه خلال فترة السلام التي استمرت 13 عاماً، تم التعامل مع القضايا الداخلية فقط.

وبينما كانت الحرب العثمانية الروسية التي بدأت عام 1787 مستمرةً، أعلنت النمسا الحرب على الإمبراطورية العثمانية بالرغم من أنها تلقت أموالاً من الإمبراطورية العثمانية للبقاء على الحياد. وفي عام 1788، هُزم الجيش النمساوي في رومانيا. وبالكاد نجا الإمبراطور جوزيف الثاني من الأسر. وبهذه المناسبة، حصل السلطان عبد الحميد الأول على لقب "غازي".

وفي نهاية العام نفسه، سقطت قلعة أوتشاكيف في أوكرانيا في أيدي الجيش الروسي المكون من 80 ألف جندي تحت قيادة الأمير بوتيمكين. وقتل حوالي 25.000 شخص من سكان القلعة. ثم سقطت أوديسا وقلعة خوتين في بودوليا. وأثناء قراءة الأخبار عليه، أصيب السلطان عبد الحميد بجلطة من شدة الحزن.

ومع أن كبير الأطباء الذي استدعي على عجل حاول مواساته بالقول إنها مجرد نزلة برد، إلا أن السلطان عبد الحميد الذكي والحساس فهم الموقف وقال للطبيب: "حسن أفندي! هذه خدمتك الأخيرة لي! لقد فقدت سيدك!" فانخرط كبير الأطباء بالبكاء.

وبعد ذلك ودّع السلطان عبد الحميد أولاده، وعهد بالحكم إلى ابن أخيه الأمير سليم الذي رباه مثل ابنه وكان يخبره دائماً بأسرار الدولة والقصر ويستمع منه إلى النصح والمشورة. وفي صباح يوم 7 أبريل/نيسان 1789 توفي السلطان عبد الحميد الأول ألماً وحزناً بعد سقوط قلعة في أوكرانيا وقتل سكانها، ما يسلط الضوء على تفاصيل عميقة في شخصيته المسؤولة والمتفاعلة مع آلام الأمة.

وبعد حياة دامت 64 سنة وحكم استمر 15 عاماً، حل محله ابن أخيه السلطان سليم الثالث على العرش. ودفن عبد الحميد الأول في القبر الذي بناه في بهجة كابي. ووضع على رخام قبره أثر من آثار النبي محمد أتى به من منطقة حوران في جنوب سوريا. ثم أصبح ابناه مصطفى ومحمود سلاطين واحداً تلو الآخر فيما بعد.

أهم انجازاته

جلب السلطان عبد الحميد مهندسين من فرنسا لإصلاح الجيش، واعتاد أن يشارك في احتفالات صب قذائف المدفعية، وكان لديه اهتمام خاص في تعزيز البحرية. كما أسس السلطان كلية الهندسة البحرية التي أصبحت اليوم كلية الهندسة البحرية بجامعة إسطنبول التقنية.

وطور السلطان عبد الحميد فرع سلاح المدفعية سريع النيران وافتتح مدرسة الهندسة العسكرية عام 1784. وأصدر عدة قرارات في منع الهدر والإسراف. وقمع تمردات ليفنت التي استمرت لسنوات في الأناضول وقضى على معظم المتمردين.

كذلك بنى السلطان عبد الحميد الأول عام 1778 مسجداً وميقاتيةً يحدد العلماء فيها أوقات الصلاة وحماماً تركياً ومدرسة ابتدائيةً تخليداً لذكرى والدته. وفي عام 1775 قام بتمويل وقف يتكون من مطبخ حساء عام وبجانبه ينبوع مياه ومدرسة ابتدائية ومسجد ومدرسة دينية ومقبرة ومكتبة وكلها كانت موجودةً في منطقة إمينونو في إسطنبول

ورمم المسجد الحرام ومقام إبراهيم عليه السلام، ولديه مدرسة ومكتبة بنيت في المدينة المنورة. وعلقت قصيدته العربية التي كانت في محبة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام على جدران القبر النبوي الشريف لكن غرفة الزينة التي بناها فوق بئر زمزم هدمت عام 1963.

التواضع والرحمة في شخصيته

تابع السلطان عبد الحميد شؤون الدولة حتى أدق التفاصيل، مع إعطاء أهمية لحسن سير الشؤون. وعين وزراء عظماء أقوياء مثل خليل حميد باشا والجزائري غازي حسن باشا ويوسف باشا. وأعطى الوظائف للمؤهلين دون أن يتدخل معهم إلا في بعض الأحيان فقط حين يقدم المشورة لهم.

وبسبب حرب 1787، تضاعفت الأسعار 3 مرات وظهر نقص في المواد الغذائية في المدن، وحقيقة أنه أرسل أوامر إلى حاكم نائب الوزير لحل المشكلة بشكل عاجل دليل على تعاطفه مع الناس.

يوصف السلطان عبد الحميد الأول بأنه حاكم تقي ولطيف وطيب القلب وحسن النية ويتمتع بالكثير من الرحمة والعطف على شعبه وله شخصية ملائكية. وبسبب قلبه النقي وإخلاصه الكبير اعتقد الناس أنه ولي ويمكنه أن يصنع المعجزات مثل جده الأكبر السلطان بايزيد الثاني.

وكان يتنكر بزي الدراويش ويتجول بين الناس ويحاول التعرف على كل منطقة في المدينة ويفحص ينابيع المياه والشوارع والأرصفة، ويبلغ الوزير الأعظم عن أي أعطال يراها. وخلافاً لعرف السلاطين السابقين، قبل دعوات أعيان الدولة وذهب إلى قصورهم لتناول العشاء. ويدل قبوله دعوة مسؤول منخفض الرتبة مثل موظف الجمارك عثمان آغا في بيكوز على تواضعه.

حتى أن الخدم في قسم الحريم أدوا أمامه مسرحية فكاهيةً عن تغيير ملابسه والسير بين الناس لتفقد حشمة ملابس النساء فضحك من العرض ولم يبد انزعاجاً.

وبلغ 2 من أبنائه و4 من بناته سن الرشد وتزوجوا وتنحدر السلالة العثمانية اليوم منهم. كما أصبحت ابنته السلطانة أسماء نموذجاً لسيدات إسطنبول بثروتها وحياتها المستقيمة. كذلك بنت زوجاته سُبُل مياه وأعمالا خيرية.

تنبيه قانوني: تنبيه قانوني: جميع حقوق النشر والاستخدام للأخبار والمقالات المنشورة ملك مؤسسة "تركواز ميديا جروب" Turkuvaz Medya Grubu'. ولا يجوز اقتباس أي مقال أو خبر بالكامل حتى مع ذكر المصدر دون الحصول على إذن خاص.
يجوز اقتباس جزء من أي مقال أو خبر بشرط وضع رابط مباشر للمقال أو الخبر المقتبس.. من فضلك اضغط هنا لقراءة التفاصيل اضغط.