دور تركيا في البلقان مثال للدبلوماسية في أفضل حالاتها

نشر في 21.01.2022 11:15
آخر تحديث في 21.01.2022 11:19

ألقى الرئيس رجب طيب أردوغان خلال زيارته الأولى لألبانيا وهي أول زيارة خارجية له للعام 2022، خطاباً في البرلمان الألباني وافتتح مشروع تطوير المساكن التي دمرها الزلزال ومسجد "أدهم بيه" الذي يعود للعصر العثماني والذي أعادت ترميمه وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا".

ومثّل افتتاح مشروع تطوير الإسكان في بلدة لاش الشمالية الغربية، إلى جانب الاحتفالات الأخرى والاجتماعات رفيعة المستوى، أهم جزء من الزيارة، لأنه يعكس بوضوح الوفاء والصدق الذي يجمع البلدين.

وكان الشعب الألباني واجه معاناة كبيرة بعد زلزال ضرب البلاد بقوة 6.3 درجة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ودمر مدينة بأكملها تقريباً وقتل 51 شخصاً وتسبب بنزوح ما يقرب من 17.000 آخرين. وحظي المجمع السكني الذي موّلته وبنته تركيا، بالتقدير الكبير لدى المواطنين الألبان حيث تجمع المئات من أبناء الشعب الألباني في الشوارع للترحيب بالرئيس التركي.

ونتيجة لتعميق العلاقات بين البلقان وتركيا في السنوات الأخيرة ازداد التقارب بين البلدين، وصرح أردوغان عدة مرات أن "التوافق النسيجي" بين تركيا وألبانيا "أمر طبيعي وحقيقة لا تُغفل" كما أن التبادل الثقافي القائم منذ قرون قد أثبت القوة التي لا يمكن إنكارها اليوم.

ونتيجة للتواصل بين الألبان والأتراك عبر التاريخ، فإن عدد الألبان الذين يعيشون في تركيا غدا أعلى منه في ألبانيا نفسها. وتشير عناصر مختلفة مثل الطعام واللغة والدين على الروابط الوثيقة التي تجمع الشعبين.

كما أن تركيا هي واحدة من أكبر المستثمرين في ألبانيا لا سيما من حيث البنية التحتية، إذ يبلغ هدف التجارة الثنائية مليار دولار سنوياً.

وبالعودة إلى التاريخ نجد أن عقوداً من الحكم الشيوعي تحت قيادة أنور خوجا، تسببت بصدمة لأجيال بكاملها بسبب الآثار السلبية الناجمة عنها. وبعد نهاية الحرب الباردة وتفكك يوغوسلافيا وظهور دول البلقان الجديدة والحرب والصراع التاليين، خلق "الصمت الاستراتيجي" للاتحاد الأوروبي وأزمات الهوية المستمرة، مستوى من التعاون غير المسبوق بين تركيا وألبانيا، اللتين حافظتا على العلاقات على مدى مئات السنين، كحليفتين طبيعيتين في بيئة معادية للغاية.

وبينما حولت أزمات التسعينيات دول البلقان إلى أعداء لدودين، لم تكن الدول المجاورة وكذلك الاتحاد الأوروبي موجودة دائماً لتقديم العزاء في الأوقات الصعبة. ومع ذلك، فإن دور تركيا في البلقان على حد تعبير رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، كان "دوراً لا غنى عنه وغير قابل للشك في كونه دوراً بناءً من أجل السلام".

ولا يمكن لأحد أن ينكر أن الإمبراطورية العثمانية خلفت وراءها إرثاً إمبراطورياً منقطع النظير من حيث التنوع العرقي والديني واللغوي الذي لا يزال موجوداً في البلقان. على عكس الحكم الشيوعي والسياسة طويلة الأمد المتمثلة في توطين معظم أراضي البلقان، الذي خلّف تنوعاً متشدداً وهشّاً وغير موثوق به في العقود التي أعقبت سقوط جدار برلين.

وتم استهداف المجتمعات المسلمة بشكل خاص، وإجبارها على الدخول في صراعات وحروب، أو استهدافها من قبل سياسات الإبادة الجماعية، وتُركت في وضع سياسي واقتصادي محروم مع الافتقار إلى قيادة فعالة. وتمت ممارسة كل هذه الأشياء في قلب أوروبا ليس قبل قرن كامل ولكن فقط عندما كنت طفلة وبينما كانت والدتي تعمل في وكالة مساعدات إنسانية للتضامن مع البوسنيين خلال الصراع في أوائل التسعينيات.

وفي حين أن دول البلقان ليست كلها متجانسة فيما بينها ولا تتمتع بعلاقات فريدة من نوعها في بنيتها السياسية، فقد ازدهرت العلاقة بين تركيا والبلقان باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الماضي العثماني، وخُلقت شراكة استراتيجية بينهما من خلال التراث المشترك.

ومن الملفت للنظر أن استثمارات البنية التحتية والاستثمارات التنموية التركية لم تقتصر على ألبانيا فحسب، بل فتحت تركيا طريقاً سريعاً بين بلغراد والبوسنة والهرسك سيربط البوسنة والهرسك بدول البلقان الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، تعد تركيا ثالث أكبر مستثمر في كوسوفو، وتقوم وكالة تيكا التركية بترميم وإعادة بناء التراث الثقافي العثماني في أجزاء مختلفة من المنطقة. وتربط هذه المشاريع الرئيسية بين المدن والأشخاص والثقافات والتاريخ.

ومؤخراً افتتحت تركيا قنصلية في نوفي بازار، وهي ولاية صربية يسكنها مسلمو البوشناق بغالبية عظمى.

يذكر أن زيارات أردوغان إلى البلقان وزيارات قادة دول البلقان إلى إسطنبول وأنقرة أكثر من متكررة. ففي أغسطس/آب 2021، قام أردوغان بجولة صغيرة في البلقان، زار فيها البوسنة والهرسك والجبل الأسود واستضاف قادة البلقان عدة مرات في العاصمة التركية. وعندما بلغت الأزمات المستمرة في البوسنة والهرسك ذروتها، شهدت إسطنبول زيارة مدهشة للغاية لميلارا دوديك، العضو الصربي في ثلاثية البوسنة والهرسك، وكذلك الزعيم البوسني بكر عزت بيغوفيتش في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وفي نفس اليوم الذي عاد فيه أردوغان إلى تركيا قادماً من ألبانيا، قام الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بزيارة إلى أنقرة، وتحدث الزعيمان عن الأزمات البوسنية في مؤتمر صحفي مشترك.

ومن الواضح أن الحركة الدبلوماسية المذهلة بين تركيا ودول البلقان وكل هذه اللقاءات الوثيقة، تظهر بوضوح أن سياسة تركيا في البلقان لا تقودها أيديولوجية شاملة ولكن شراكة إستراتيجية تعاونية مفتوحة.

كما تعد علاقة أردوغان بقادة البلقان أكثر من ممتازة. ويؤمن الشعب التركي أن البوسنة والهرسك قد ورثت الكثير من عزت بيغوفيتش وأن مذكراته وتعاليمه وحكمته محل استحسان الجمهور التركي بكافة أطيافه. كما أن علاقة أردوغان برئيس الوزراء الألباني إيدي راما هي أكثر من ودية، ورؤيته بشأن صربيا تجعل من فوتشيتش صديقاً مقرباً أيضاً.

وتعمل تركيا الحديثة، حليفة الناتو والمرشحة منذ عقود لعضوية الاتحاد الأوروبي، على تجديد سياستها في البلقان لاستعادة نفوذها الجيوسياسي عبر دول المنطقة. ويصاحب الكفاح التركي لتحفيز التراث المنسي خدمات حيوية مثل التعليم وإقامة المستشفيات والبناء فضلاً عن المشاركة الدبلوماسية المكثفة في المنطقة. وتشير كل هذه الأمور إلى سياسة تركيا الخارجية المتمثلة في الشروع في انتعاش تاريخي في السنوات الأخيرة.

وبصفتها موطناً للثقافات والأعراق والأديان المختلفة، تحثّ أنقرة دول البلقان على ألا تستسلم للأزمات والصراعات، ولا تعمد إلى إحراق الجسور أو إغلاق الأبواب فيما بينها، ولكن التحدث مع بعضها بلغة دبلوماسية لائقة، وهو بالضبط ما بدأ يحدث بوضوح بين دول البلقان، وهو ما تحتاجه أيضاً هذه الدول بينها وبين بقية دول العالم اليوم. ويشكل دور تركيا كمؤثر متوازن في البلقان ومفاوضاً لحل الصراعات في المنطقة تحدياً للاتحاد الأوروبي في ساحته الخلفية.

ومع ذلك، وبالرغم من الزيارة الرئيس التركي لألبانيا، لا زالت بعض المشاكل والجوانب لم تحل بعد في العلاقات الثنائية. إذ كان الدعم الأيديولوجي الألباني للدوائر المرتبطة بتنظيم بي كا كا الإرهابي وأعضاء جماعة غولن الإرهابية الذين يحتمون ويحصلون على اعتراف سياسي على الأراضي الألبانية، من أهم القضايا التي تناولها أردوغان في اجتماعه مع راما.

وسواء كانت العلاقات دافئة بالفعل أو تكتسب أهمية مع مرور الوقت، فإن نفوذ تركيا في البلقان يعتمد دائماً على النخب السياسية في تلك الدول. كما أن موقف تركيا من البلقان بعيد المدى، بما يتجاوز التعميم الحرفي لعبارة "العثمانية الجديدة"، باعتباره حكماً وليس عباءةً إمبراطوريةً تدعو للنزاعات غير الضرورية بين قوى البلقان.

تنبيه قانوني: تنبيه قانوني: جميع حقوق النشر والاستخدام للأخبار والمقالات المنشورة ملك مؤسسة "تركواز ميديا جروب" Turkuvaz Medya Grubu'. ولا يجوز اقتباس أي مقال أو خبر بالكامل حتى مع ذكر المصدر دون الحصول على إذن خاص.
يجوز اقتباس جزء من أي مقال أو خبر بشرط وضع رابط مباشر للمقال أو الخبر المقتبس.. من فضلك اضغط هنا لقراءة التفاصيل اضغط.