لغة الصم في الدولة العثمانية

اسطنبول
نشر في 19.08.2017 00:00
آخر تحديث في 13.11.2017 20:29
صورة تمثيلية لأحد الموظفين الصم بإخجى المحاكم في الدولة العثمانية صورة تمثيلية لأحد الموظفين الصم بإخجى المحاكم في الدولة العثمانية

يعمل اليوم في البرلمان التركي وفي مجلس الوزراء بعض الموظفين من الصم والبكم. ويرجع السبب في ذلك إلى الرغبة في ضمان سرية بعض الأعمال الخاصة بالدولة. ولهذا التقليد المتبع ماضٍ قديم.

يعمل اليوم في البرلمان التركي وفي مجلس الوزراء بعض الموظفين من الصم والبكم. ويرجع السبب في ذلك إلى الرغبة في ضمان سرية بعض الأعمال الخاصة بالدولة. ولهذا التقليد المتبع ماضٍ قديم.

كان الصم والبكم يتولون بعض الوظائف في القصر العثماني. وكانوا يقومون بخدمة السلطان أثناء لقاءاته مع رجال الدولة وذلك للحفاظ على سرية ما يقال أثناء تلك اللقاءات فكانوا يقومون بإحضار أو إرسال بعض الأوراق أو أي شيء يكلفون به. وكانوا يستطيعون التجول بحرية داخل القصر إلا أنه لم يكن هناك خوف من إفشاء أسرار الدولة لأنهم لا يسمعون ما يقال ولا يمكنهم الحديث. بعد ذلك انتقل هذا التقليد إلى "الباب العالي" حيث تعقد اجتماعات الحكومة العثمانية واستمر حتى يومنا هذا.

كانت كلمة "بي زبان" وتعني أبكم باللغة الفارسية هي المستخدمة في تلك الفترة أكثر من مقابلها التركي "ديلسز" للدلالة على هؤلاء. وقد بدأ تشغيلهم داخل القصر في عهد السلطان محمد الفاتح وكانوا يعملون في القسم الداخلي بالقصر الذي يضم مدرسة ومكاتب عمل ويُطلق عليه "أندرون" وفي نهاية القرن السابع عشر كان هناك حوالي عشرة من البكم يعملون في الـ"أندرون". ولم يكونوا يترقون إلى مراتب عالية داخل القصر.

لم يكن عمل البكم يقتصر على القسم الداخلي في القصر فقط بل كان هناك بعض الصم والبكم أيضاً ضمن البوابين ومنفذي أحكام الإعدام العاملين في القسم الخارجي للقصر والذي يطلق عليه "بيرو". وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يعملون في الوظائف التي تتطلب سرية فقط بل كانوا يعملون في الوظائف التي لا يُرغب للعاملين بها في التواصل مع الآخرين وأيضاً لمنع الرشوة. كما أن منفذ حكم الإعدام إذا كان أصم وأبكم فلن يتمكن من سماع صراخ واستغاثات المحكوم عليه كما لن يسمع أي عرض يعرضه المحكوم عليه بالإعدام.

السينما الصامتة

هناك إشارات وحركات خاصة يستخدمها الصم والبكم للتواصل فيما بينهم ومع الآخرين. ويُطلق عليها "لغة الصم والبكم". وقد تعلم كل من في القصر هذه اللغة. كان الهدوء شيئاً أساسياً وضرورياً في القصر العثماني، كما كان الحديث أمام الكبار وخاصة السلطان يعد عيباً لذلك اعتاد من في القصر استخدام لغة الإشارة للتواصل فيما بينهم.

تحولت لغة الإشارة إلى موضة داخل القصر، حتى إنهم كانوا يستخدمونها أحياناً لقص الحكايات لبعضهم بعضا وكأنهم يلعبون لعبة السينما الصامتة (بدون كلام).

كان السلطان عثمان الثاني (1618-1622) هو أول سلطان يتقن لغة الإشارة. وفي تلك الفترة وصل عدد الصم والبكم في القصر إلى 100.

كان كل السلاطين تقريباً يفضلون تلك اللغة، وكانوا يستخدمونها أحياناً إذا أرادوا أن يقولوا شيئاً للصم لا يريدون أن يفهمه الآخرون خلال الاجتماعات التي يبحثون فيها أمور الدولة.

تشغيل ذوي الاحتياجات الخاصة

كان هناك مجموعة من الأقزام أيضاً يعملون في القصر العثماني. وكان هؤلاء الأقزام الذين يتميزون بالذكاء يعملون في الأعمال التي لا تتطلب قوة بدنية. مثلاً كانوا يعملون في مكتبة القصر. وكانت تتم ترقية الأكفاء منهم، وبعضهم كان يترقى ليصبح المسؤول عن مراجعة حسابات المشافي داخل الدولة. وبفضل ذكائهم وحديثهم العذب وثقافتهم العالية كان منهم ندماء للسلطان.

كما كان هناك المخصيون الذين يعملون لحفظ الانضباط داخل الـ"أندرون" وكانوا يترقون ليصلوا إلى مراتب عالية مثل إدارة الأوقاف. ومن اللافت للنظر هذا الحرص على تشغيل ذوي الاحتياجات الخاصة قبل قرون

عصر جديد

في عهد السلطان محمود الثاني (1808-1839) أعيد تشكيل الحياة السياسية ومؤسسات الدولة من جديد. وبدأ الصم والبكم الذين كانوا يعملون في القصر بالعمل في المجالس والهيئات التي بدأ تأسيسها عام 1839 في عهد التنظيمات، وخاصة في مجلس الحكومة المسمى "هيئة الوكلاء". ومن أجل التواصل معهم كان الصدر الأعظم والوزراء ومرافقوهم من المدنيين والعسكريين مجبرين على تعلم لغة الإشارة الخاصة بهم.

حتى في أواخر أيام الدولة العثمانية (1922) كان هناك 4 من الصم والبكم يعملون في الباب العالي. وقد خدم هؤلاء في الحكومة العثمانية لسنوات طويلة. واليوم أيضاً هناك مجموعة من الصم والبكم يعملون في البرلمان ومجلس الوزراء حيث يقومون بالخدمة خلال الجلسات الخاصة والسرية.

نُظم الوضع القانوني والحقوقي للصم والبكم في القانون الإسلامي-العثماني مثلهم مثل جميع المعوقين. وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من فقدوا أعضاء من أجسادهم بأن لهم الجنة. كذلك أوضح أن من يحاولون أن يرشدوا الصم والبكم إلى ما يقال وما يجري حولهم، لهم ثواب عظيم. كما أن كتب الفقه تحوي أحكاماً مفصلة خاصة بالصم والبكم. وقد وضعت مواد وأحكام خاصة بهم في "مجلة الأحكام العدلية" التي تضم القانون العثماني المدني.

الصم والبكم مسؤولون ومكلفون من الناحية الدينية على قدر ما يفهمون من الأحكام الدينية وعلى قدر طاقتهم. وفي المعاملات القانونية يتم اعتماد الإشارات المتعارف عليها لديهم. فيمكنهم إبرام كل أنواع العقود والتعهدات بهذه الإشارات كما يمكنهم الزواج والطلاق والبيع والشراء بها. ولكن تقبل شهادتهم تحت ظروف معينة ولا يمكن أن يصبحوا حكاماً أو قضاة.

الرموز

يُقال أن الله يعوض من لديه عضو ناقص بتقوية بقية أعضائه. وبالفعل كان الصم والبكم في القصر العثماني حساسين وأذكياء جدا. كما كانوا يتمتعون بذاكرة قوية تمكنهم من تذكر الأحداث بأدق تفاصيلها. وكانوا يقصون الأحداث التاريخية والشخصيات المشهورة بلغة الإشارة الخاصة بهم وبطريقة تجعلهم يتفوقون على من يشتهرون بحسن الحديث.

كان لدى الصم والبكم في القصر مقدرة وموهبة فريدة على تمثيل الشخصيات المشهورة بإشارة واحدة. مثلاً كانوا يرمزون إلى السلطان بفتح أصابع اليد اليمنى وتقريبها من الرأس مثل الريشة التي تكون على عمامة السلطان. ويرمزون إلى الصدر الأعظم بضم قبضة اليد اليمنى ورفع أصبع الإبهام لأعلى. وعندما يريدون الإشارة إلى شيخ الإسلام كانوا يمسكون بكم اليد اليمنى ويجرونه لأسفل في إشارة إلى الأكمام الواسعة التي يتميز بها لباس شيخ الإسلام ثم يقومون بعمل حركات دائرية فوق رؤوسهم وكأنهم يقومون بلف العمامة.

مدرسة الصم والبكم

أما ناظر الحربية فكان يشار إليه بوضع الذراع اليمنى على الكتف اليسرى بسرعة مثل حركة "كتفاً سلاح". وناظر البحرية كان يشار إليه برفع اليد اليمنى بحيث تكون راحة اليد لأعلى والنفخ فيها مثل المركب الشراعي. أما ناظر الداخلية فكان بشار إليه بتمرير اليد اليمنى على البطن في إشارة إلى الأعضاء الداخلية بالجسد.

أما ناظر الخارجية فكان يُرمز إليه بوضع أصبعي السبابة فوق بعضهما مثل شكل الصليب؛ وذلك لأن عمل ناظر الخارجية يكون مع الأجانب والدول الاوروبية. ووزير العدل كان يرمز إليه برفع اليد قليلاً وكأنها تمسك بميزان. وقائد الشرطة يُرمز إليه بوضع معصمي اليد فوق بعضهما بصورة متقاطعة.

للأسف لم تصلنا معلومات مفصلة حول خصوصيات هذه الإشارات التي انتقلت من جيل لجيل على مدى قرون. إلا أنه من المحتمل أن مدرسة الصم والبكم التي أسسها السلطان عبد الحميد الثاني قبل 120 عاماً تواصل تعليم لغة الإشارة، وفي هذه الحالة يمكن أن نقول أن لغة الإشارة المستخدمة حالياً في تركيا هي امتداد للغة الإشارة التي كانت مستخدمة في القصر العثماني