تأملات في معاني الزهور ودلالاتها في الحضارة الإسلامية والعصر العثماني

ديلي صباح
إسطنبول
نشر في 30.11.2021 14:03
آخر تحديث في 30.11.2021 14:11
السلطان محمد الثاني ممسكاً بزهرة في يده السلطان محمد الثاني ممسكاً بزهرة في يده

تمثل الأزهار عناصر الجمال الأولى في الطبيعة، وربما تحتل المرتبة الأعلى في إرضاء العين والأنف والروح بأشكالها المتناغمة وألوانها الجميلة ورائحتها الفريدة. ويفضل الناس عطور الأزهار بسبب خصائصها الطبيعية التي تساعد على الاسترخاء وتمنح الإحساس بالسعادة الداخلية. ومنذ قديم الزمن وحتى يومنا هذا، لا زالت الأزهار تلعب دوراً كبيراً في صناعة العطور بكافة أنواعها وروائحها سواء الخفيفة منها مثل تلك المأخوذة من زهور الحدائق والشجيرات العطرية، أو الروائح المشبعة بالعبق الثقيل المأخوذة من الياسمين والزنابق. وقد أحب النبي محمد عليه الصلاة والسلام، رائحة الزهور وطيبها وخاصة زهور البنفسج.

وكانت الحضارة العثمانية محبة للزهور بكافة أنواعها، من زهور الحدائق العامة والمنزلية إلى الزهور الفواحة التي كانت تنتشر في البساتين ومزارع الزهور الاحترافية. وكانت الأمهات والجدات يزرعن الزهور في المنازل وأمام النوافذ، ويرعينها كأنها أطفالهن وأحفادهن. ولم تقتصر زراعة الزهور والعناية بها على النساء فقط بل كانت هواية الرجال الجادين أيضاً، مثل السلطان محمد الثاني الذي صوره أحد الفنانين ممسكاً بزهرة جميلة في يده.

وكانت الأنماط الزهرية زخرفةً مفضلة للفساتين والستائر والأغطية وحتى الأوشحة. كما سُميت الفتيات على اسم الأزهار، وعلقها الرجال على عمائمهم. وتم تزيين شواهد قبور السيدات بالورود، بينما زينت المناطق المحيطة بالقبور بكميات كبيرة منها لتخفيف ألم الفراق وصدمة الموت على المحبين والأقارب بعد الدفن. وكان لكل منزل في إسطنبول زهوره الموافقة لأذواق ساكنيه من الفقراء إلى الأغنياء، حيث كانت الأزهار توضع في أواني وعلب من الصفيح على نوافذ كل منزل إضافةً للزهور المزروعة في حديقة المنزل أو في رواقه الداخلي مهما كان صغيراً أو محدوداً.

وكانت الفساتين النسائية في الحقبة العثمانية تُصنع غالباً من قماش تزينه الأزهار، وحتى النعال كانت تصنع من قماش يحتوي على زخارف نباتية. كما تتميز معظم الجوارب النسائية في الأناضول بزخارف نباتية، ولكل تصميم منها اسم خاص به يتعلق بنوع النباتات أو الزهور المرسومة عليه.

ولم تخل ملابس الرجال من الزهور أيضاً، فأردية السلاطين المزينة بزهور القرنفل التي ترمز للنبل والولاء، لا تزال موجودة في المتاحف. كما أضيفت الزهور إلى منحنيات عمائم السلاطين التي تشكل ملحقاً رسمياً لأزيائهم. ومعظم أواني السلاطين على شكل أزهار. أما في عالم المجوهرات، فالزهرة هي الفكرة الرئيسية لأي تصميم ملكي كان أو شعبي.

وإلى جانب الفساتين، تتميز الحجابات وأغطية الرأس النسائية المسماة "يازما"، بزخارف الأزهار، إذ تُطرَّز الأزهار على طول الحافة ويوضع المزيد منها في المنتصف. وكانت نساء العهد العثماني بارعات في مثل هذه الأعمال الفنية وكن يطرزن زخارف الزهور على حجابهن وعلى حافة الوسائد وحتى على الأقمشة العادية التي كانت تستخدم في كل المجالات.

وهناك رابط فطري يجمع بين النفس الإنسانية والولع بالزهور، فقد قام رجال الطبقة العليا والمتدينون وعلماء الإسلام في العصر العثماني بزراعة الزهور في حدائقهم، كما نشاهد اليوم أفراد العائلات المالكة الأوروبية في حدائق الزهور يرتدون القفازات والمقص في أيديهم. وتظهر العديد من الرسوم المنمنمة، سلاطين عثمانيين يحملون الزهور في مشهد معتاد لحمل الزهور وشمها من حين لآخر بسبب تأثيرها المريح والمهدّئ.

ولا يوجد في المنمنمات العثمانية عمل فني بدون أزهار أو لباس غير مزخرف بها. وتظهر اللوحات القديمة التركية باختلاف نماذجها أزهاراً ومزهريات محملة بأنواع مختلفة منها، على الطاولات. وكذلك يعد إهداء الزهور للمحبين والأهل والأصدقاء من العادات التركية المترسخة في الثقافة العثمانية وإلى يومنا هذا. ولكل نوع منها دلالاته فعلى سبيل المثال يرمز زنبق الوادي إلى السلام، حيث تم تقديمه ذات يوم كهدية للسفير الفرنسي. كما أن إرسال الزهور لحفلات الزفاف وأيام الاحتفالات الخاصة واحتفالات الذكرى السنوية، كان ولا يزال حدثاً يدخل الفرح والبهجة إلى القلوب.

وبالرغم من أن استخدام الزهور في الزخرفة والمنسوجات كان سائداً في الصين، إلا أن الأتراك تأثروا بشدة بالفكرة فعملوا بها ونقلوها بدورهم إلى الأوروبيين الذين عرفوها عن طريق الكثير من المسافرين والرحالة الذين عبروا الامبراطورية العثمانية في طريقهم إلى أوروبا، وجاؤوا على ذكر حب الأتراك للزهور في كتب أسفارهم.

الأزهار تفصح عن لغة الحب

ومن عجائب خلق الأزهار أيضاً أنها تحتوي على رموز انتقلت إلى القصص والقصائد والأناشيد التي تتحدث عن العشق الإلهي والعشق بين بني البشر. فالزنبق والورد الجوري بلون الرمان، محمل بالمعاني الإسلامية. إذ يرمز الزنبق إلى عشق الذات الإلهية بينما ترمز الوردة الجورية إلى محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ويمثل شكل الزنبق وبعض الأحرف في الأبجدية العربية لفظ الجلالة "الله" ما يجعلها زهرة مهيبة ترتفع إلى السماء وترمز إلى الوحدانية.

وكذلك يعبر القرنفل على الإخلاص، وتعبر زهرة اللوتس التي تطفو على الماء عن العبّاد الزاهدين من الأولياء الذين ينشرون سجاداتهم على الماء. وبالمثل، فإن انحناء البنفسج يمثل التواضع بينما يمثل النرجس التكبر والعجرفة، أو ربما يمثل أحياناً العاشق الممعن بالتعلق الرباني، لأنه ينمو على حافة الماء كما لو كان معجباً بانعكاس صورته على صفحة الماء، ومن هنا جاء مصطلح "نرجسي" الذي يستخدم للإشارة إلى الصالحين في اللغة التركية القديمة.

ويرمز زهر الليل الذي ينشر أريجه بعد حلول الظلام إلى الأمل الذي يعطيه الليل بأن وراءه فجر قادم، ويرمز الزنبق والياسمين أيضاً إلى الحب بين بني البشر ويكثر ذكره في لغة الحب والشعر كما أن بتلة الورد التي يضعها الحبيب في منديل حبيبته هي أيضاً علامة حب وتعلق عاطفي مفرط.

ويعود الولع بالزهور في النسيج والزخرفة بين الأتراك جزئياً إلى الأحكام الدينية. لأن الإسلام الذي يحرم استخدام صور الكائنات الحية في الرسم والتصوير بكافة أشكاله، لم يفرض قيوداً على الزهور.

حتى أن الأتراك استخدموا الزهور على شواهد القبور التي من المفترض أنها تعبر عن الحزن، وخاصة شواهد قبور النساء. كما توجد أزهار على العمائم الحجرية التي تعتلي شواهد قبور الرجال أيضاً.

ويُعجَب زوار قصر طوب كابي في إسطنبول، بأزهار التوليب والقرنفل والزنابق الموجودة على الجدران وكذلك على البلاط الذي يزين جدران المساجد. ويأتي العديد من السياح فقط لرؤية هذه الأنماط من الزخارف النباتية التي اشتهرت بها تركيا، حتى أن بعض الأجانب مثل "جوزيف فون هامر بورغستال" و"بيير لوتي"، قاموا بتغطية إحدى غرف بيوتهم في مسقط رأسهم بهذا البلاط التركي المحبب.

وتماشياً مع تطور الموضة والصرعات كان تواجد الزهور في البلاط والزخارف يتطور مع الحداثة والتجديد، فقد انتشرت أزهار الخشخاش في البلاط السلجوقي بلونها الأحمر النموذجي الذي منحها جاذبية لا تصدق على البلاط الأزرق. بينما كانت الورود والزنابق شائعة بشكل خاص في القرن السادس عشر، وسيطرت الزنابق على المشهد الفني في نهاية القرن السابع عشر، حتى سميت هذه الفترة باسم عصر التوليب، حيث انتشرت زهور الزنبق أو ما يعرف بجنون التوليب، في جميع أنحاء العالم.

ولأن الزهرة هي أكثر الزخارف شيوعاً، خاصة في السجاد العثماني، تحول السجاد إلى عمل فني راحت الفتيات يبدعن في نسجه. ولم تكن هناك صالات عرض فنية في تلك الحقبة، فصار كل بيت عثماني بمثابة معرض فني تنتشر فيه زخارف الزهور على كافة موجودات المنزل من السجاد إلى اللوحات والمفارش إلى صناديق الملابس والمجوهرات وحتى على الأبواب الخارجية.

ولم تخل الكتب أيضاً من الزهور، فالرسوم التوضيحية والأغلفة الخارجية هي بالفعل فن فريد، إلى جانب الحواف التي غالباً ما يتم تزيينها.

وكان الجزء الخارجي من الكتاب مصنوعاً من الجلد، ومع ذلك فإن بعض الكتب زينت أغلفتها بالورود وصبغت بالديباج أو بطلاء ملون.

ونظراً لأن كل زهرة لها موسم، قام بعض فناني الورق في العصر العثماني بنحت طبقات من الورق أو الجلد، لصنع زهور صناعية ورسمها، للتمتع بجمالها حتى عندما ينتهي موسمها.

وختاماً فإن الزهرة في ذلك العهد كانت نفيسة جداً إلى درجة أن الواحدة التي تسقط على الأرض منها، كانت تُحفظ وتُجفف بين صفحات الكتب كتحفة نادرة الوجود.

بقلم: أكرم بوغرا اكينجي

y">@EkremBEkinci