منطق الطير.. حلقة مستدامة من أدب وفن

سميحة خليفة
اسطنبول
نشر في 19.01.2017 00:00
آخر تحديث في 20.01.2017 02:48
منطق الطير.. حلقة مستدامة من أدب وفن

في شهر مايو/أيار من عام 2015 تم افتتاح معرض للمنمنمات في مدينة إسطنبول، لتجول اللوحات الفنية بعدها بعض المدن الأخرى كأنقرة وأماسيا، قبل أن يصل بها المطاف إلى العاصمة اللبنانية بيروت. وانطلاقا من الشهر الجاري إلى غاية منتصف الشهر الثالث من هذا العام، ستعود اللوحات مرة أخرى إلى مسقط رأس فنانيها ـ تركيا ـ وبالضبط إلى منطقة "أسان تابا" التابعة لمدينة إسطنبول، وذلك لعرضها مرة أخرى تحت شعار "منطق الطير أو أغنية الطير"، وهو المعرض الذي سهر البنك الكويتي التركي على إنجاحه و إدراج لوحاته ضمن مجموعة الفن الإسلامي.

لا شك أن الفنان التركي " أزجان أزجان" قد تمكن مع مجموعة من طلابه من إنهاء اللوحات الفنية خلال فترة قدرت بسنتين كاملتين. وليس من الغريب أن يهتم الأتراك بفن كهذا وهو المرتبط كل الارتباط بالعثمانيين، وما أتى به ذلك الزمن من دقة في رسم المخطوطات وما لحقها أيضا من احتراف لفن الزخرفة وصياغة الألوان.

وبالنسبة إلى المعرض، فقد أتى عنوانه على نسق العمل الأدبي الصوفي والمنظومة الشعرية الفريدة " منطق الطير" لصاحبها النيسابوري " فريد الدين العطار". العمل الذي ذكر عنه في مجالس كثيرة وبأقلام مختلفة مدى تأثره بالرسائل الأخرى؛ كرسالة الطير لابن سينا و كذا رسالة الطير للغزالي. و من جهة أخرى، يعتبر العمل نفسه الذي أثر في الكثير من الأعمال الأدبية و الفنية لهواة و محترفين من اللاحق من الزمن، و على وجه الخصوص، فن المنمنمات.. و ما المعرض الذي سحرنا الفنان التركي أزجان أزجان، مع طاقمه المحترف، بجمال لوحالته إلا دليل على ذلك.

غير أن الأنامل التركية لم تكن الأولى في تأثرها بالملحمة الشعرية الفارسية، فقد انقضت العصور السابقة مخلفة وراءها براهين كثيرة عن المغرمين بالهدهد، والطاووس والأنواع الأخرى من الطيور، و كذا بينت لنا مدى تفاني الرسامين في إبراز الألوان من خلال صور دقيقة، مركزة و ملخصة لكل تفاصيل القصة التي كانوا بصدد ترجمتها إلى لوحات.. ولا شك أنها اللوحات التي حظيت منذ الأزل بقيمة فنية عالية، والتي لا تزال المتاحف العالمية تحتفظ بها كقطع فريدة، نادرة ومن بين أثمن ما تملك.

لم يكن الإنسان وحده السباق إلى تقديم الأعذار حين يتسلل إليه التردد تجاه قرار ما؛ الطيور أيضا كانت تتبع نفس الطقوس، وذلك حينما جعلها فريد الدين العطار تروي أسبابها للهدهد، والتي منعتها من إتمام المسيرة إلى الطائر الأعظم "سيمورغ".. لينتهي الأمر بعارف السبيل، الهدهد، ومن بقي إلى جانبه من الطيور، إلى الحقيقة العظمى وأن السيمورغ ليس إلا انعكاسا لكل واحد منهم. و كأنما الفكرة الصوفية في آخر السرد أتت لتخبرهم ألا حاجة إلى إله، غير الواحد الأحد، أن يكون رقيبا عليهم. كل ما في الأمر أن يكتفي كل واحد منهم بما هو عليه، و ألا يجعل من أمر نزيه واضح أمرا معقدا يستنزفهم كل ذلك التيه وربما التمرد.

لعل ما يشد الانتباه أكثر هو اتخاذ كل الرسائل السابقة للطير كرمزية لها، وكما هو معروف عن الطيور أنها المخلوقات الأكثر تمتعا بالحرية؛ تحلق حين تشاء وتحط حين تشاء، وتجول الفضاء الشاسع كيفما تشاء. ورغم ذلك فإنها في النهاية تعود إلى خالقها عابدة مسبحة له.. تماما كما ذكرت الآية الكريمة من سورة النور:

ألم ترَ أن الله يسبِّح له مَن في السماوات والأرض والطير صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحَه والله عليم بما يفعلون. (الآية 41)

تتمتع هذه الرسائل والمنظومات الصوفية بتحفة أخلاقية فريدة، قد لا تدرك بالبصر وإنما بالبصيرة. ذلك الخط الرفيع الرابط بين العقل والقلب، رفيع لدرجة أنه لا يرى ولكنه شديد الإحكام إذ لا جدوى من محاولة فكه. فالطيور الحرة، على سبيل المثال، تقود الفرد بسلاسة نحو كيفية التحرر من فكرة الحرية المطلقة؛ تسارع بالإخبار ألا حرج من أن نكون أحرارا كيفما أردنا، شرط أن تكون هذه الحرية ضمن إطارها المناسب الذي يليق بحقيقة الخالق.. وبدل أن تخدش فكرة عبادتنا له، تذكرنا بحاجتنا إليه، فحريتنا التي مهما اتسع نطاقها لا يجب أن تخترق النطاق الأكبر؛ نطاق عبادتنا للواحد الأحد..

التحفة الشعرية لفريد الدين العطار احتوت على الكثير من الروحانيات وملامح التصوف التي قدمها صاحبها في رمزية أدبية تشد إليها الكثير من العقول، وبشكل أو بآخر، يظهر للعيان من خلال أعمالهم و في مجالات كثيرة تأثرهم ببيت القصيد، سواء أكان ذلك أكاديميا أو فنيا.

أما أكاديميا، فنراه ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ من خلال أطروحة قدمت لنيل شهادة الماجستير لصاحبتها "عائشة عفة زكريا"، حيث جاءت فيها بمقارنة بين الأدبين الغربي والشرقي ومدى تأثر الأول بالثاني، وذلك من خلال أعمال الشاعر الإنكليزي الملقب بأب الشعر الإنكليزي "جيفري تشوسر" حيث كان الشعر الصوفي لفريد الدين مصدر إلهام له، ولعل ذلك يبرز لنا أكثر من خلال قصيدته المشهورة " مجلس الطيور" "The Parlement of Foules" .

وأما فنيا، فقد كانت المنظومة الشعرية "منطق الطير" مصدر إلهام لبعض الأعمال المسرحية ولعل أهمها مسرحية تحمل نفس عنوان الكتاب "The Conference of the Birds" وذلك عام 1979 لصاحبيها " Peter Brook و " Jean-Claude Carriere ".

وبين الأعمال الأكاديمية والفنية نجد أيضا ما ذكره الكاتب التركي " أنور غولشان" في كتابه " حقيقة السينما" عن جل الرمزيات الروحانية المشتركة بين شعر العطار والفلم السينمائي "المقتفي" أو " Stolker " للمخرج الروسي" أندريه تاركوفسكي".

وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول، طوبى لكل شخص منحته الحياة فرصة تحقيق فكرة طيبة وترك بصمة هنية للأجيال القادمة.