تدوين الحديث النبوي

نشر في 09.06.2017 00:00
آخر تحديث في 18.06.2017 13:34
تدوين الحديث النبوي

في عصرنا هذا هناك من يقولون "لا يمكننا أن نقبل بالأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنها دونت بعد وفاته بسنوات طويلة". مع أنه قد بدء بتدوين الحديث النبوي في نفس الوقت الذي بدء فيه بنسخ القرآن الكريم.

كان كتّاب الوحي يدوّنون آيات القرآن الكريم كلما نزلت بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، على قطع القماش، أو سعف النخيل، أو العظام، أو أي شيء يجدونه. وقد رغب الصحابة قبل ذلك في تدوين ما يسمعونه من النبي من أحاديث لكنه نهاهم عن ذلك خشية أن تختلط بالقرآن الكريم. فقد تعرضت التوراة والإنجيل إلى التحريف بهذه الصورة.

كان معظم الناس في ذلك العصر لا يجيدون القراءة والكتابة. وكان هناك احتمال حدوث خطأ أثناء كتابة الأحاديث، علاوة على ذلك فإن الثقافة الشفاهية كانت دائماً أقوى من الثقافة الكتابية ويعتمد عليها أكثر. وكان العرب يتمتعون بملكة الحفظ فكانوا يرددون أبيات شعر مرت عليها مئات السنين دون أدنى خطأ وكانت تنتقل شفاهياً عبر الأجيال. ويقال إنهم كانوا على درجة من الذكاء وقوة الذاكرة تمكنهم من لعب الشطرنج بعقولهم فقط أثناء سفرهم.

استعن بيمينك

لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب بيده في حياته باستثناء توقيعه لصلح الحديبية الذي عقده مع مشركي مكة عام 628. ويقول الله تعالى في القرآن الكريم "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (العنكبوت 48). وإجادة الكتابة لم تكن مزية للشخص بل مجرد حرفة يتكسب منها المال.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كتّابه بكتابة الرسائل الدبلوماسية والتعليمات الإدارية. وقد طلب من الصحابي زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة السُريانية؛ فتعلم القراءة والكتابة بها في خمسة عشر يوماً فقط. وكان يكتب خطابات النبي ويقرأ له الرسائل المبعوثة إليه.

ذات يوم، كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث بخصوص أحكام وعقوبات القتل في الإسلام. فقال الصحابي أبو شاه وهو رجل من أهل اليمن لم يستطع أن يحفظ تفصيلات ما قاله الرسول الكريم: "اكتب لي يا رسول الله" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه". وكان النبي يعطي الولاة الذين يقوم بتعيينهم نسخة من التعليمات التي يأمر الصحابة بكتابتها بخصوص الأمور المتعلقة بالضرائب. وكذلك فعل أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

أعلموا من لم يسمع مني

أصبحت المدينة المنورة هي مركز دولة الإسلام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو قائد تلك الدولة. ولذلك قام خلال العشر سنوات التي قضاها في المدينة بوضع الكثير من الأحكام الخاصة بالعقيدة والعبادات، والكثير من الأحكام المتعلقة بالحياة الاجتماعية والقواعد القانونية. هذه الأحكام كانت شفاهية أحياناً وأحياناً أخرى كانت عبارة عن تصرفات. وكان النبي يأمر أصحابه بنقل تلك الأحكام إلى الصحابة الذين لم يسمعوها منه مباشرة. وكان الصحابة يعتبرون ذلك مهمة موكلة إليهم. وهكذا ظهرت عادة نقل كلام النبي صلى الله عليه وسلم حرفياً مثلما قاله.

بعد فتح مكة ازداد عدد الأحاديث وأصبح حفظها جميعاً أمراً شاقاً، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته بكتابتها. وقد قال النبي للصحابي الشاب عبد الله بن عمرو بن العاص "اكتب! فوالذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا حق. (مشيراً بإصبعه إلى فمه الكريم)". وعن أبي هريرة قال كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه فشكا ذلك إلى النبي فقال يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استعن بيمينك وأومأ بيده للخط.

عندما توفي الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ترك مجلداً يحوي 500 حديث. وكان نافع مولى عبد الله بن عمر وتلميذه المقرب يكتب الأحاديث التي يمليها عليه عبد الله بن عمر. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يدون الأحاديث التي يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في كرّاس وكان يحفظ هذا الكراس في غمد سيفه. هذه الأحاديث موجودة في مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى في بغداد عام 855.

ونذكر أيضاً "الصحيفة الصادقة" التي كان يدون فيها الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص أكثر الصحابة تدوينا للحديث، ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. التي دون فيها حديث "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش." وقد سأله البعض عن أي المدينتين ستفتح أولاً القسطنطينية أم روما؟ فأحضر صندوقاً وأخرج منه صحيفة وقال:

"بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية (روما)؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل مدينة هرقل أولاً" يعني القسطنطينية.

الشباب يسمعون من كبار الصحابة

كان من يأتون لسماع الحديث من الصحابي البراء بن عازب يكتبون ما يسمعونه على أي شيء يجدونه أمامهم حتى كانوا يدونون الحديث أحياناً على كفوفهم. وكان أنس بن مالك يستكتب ابنه الأحاديث التي يسمعها. وقام المغيرة بن شعبة بناء على طلب الخليفة معاوية بن أبي سفيان بكتابة الأحاديث التي سمعها كلها وقدمها له. وكان الصحابي الشاب سعيد بن جبير يتجول ليلاً ونهاراً مع صاحبه ابن عباس ليسمع الحديث من كبار الصحابة وكان يكتب ما يسمعه.

وكان عروة بن الزبير يكتب كل ما يسمعه من خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومن غيرها. كما كان عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة وعبد الله بن أبي أوفى وسمرة بن جندب يكتبون بأنفسهم الأحاديث التي يسمعونها؛ بينما كان بعض الصحابة الآخرين يستكتبون غيرهم ما يسمعونه ومنهم البراء بن عازب وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وابن مسعود والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت. وكان هناك عدد كبير من الصحابة لديهم دفاتر مكتوب فيها العديد من الأحاديث. وقد دونت تلك الأحاديث في كتب الحديث التي صُنفت بعد ذلك.

أخشى من ضياع العلم والعلماء

وقد كلف الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (توفي عام 720 هـ) التابعي الكبير قاسم بن محمد بجمع وكتابة كل ما يعرفه من الأحاديث التي روتها عمته أم المؤمنين عائشة.

وذات مرة أرسل عمر بن عبد العزيز إلى والي المدينة أبو بكر بن محمد وطلب منه أن يجمع الأحاديث والسنّة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا يزالون يعيشون في المدينة، وأن يكتبها خشية أن يضيع العلم ويفنى العلماء. قائلاً "انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله".


وقد كان كلاهما من تلامذة أم المؤمنين عائشة وأكثر الناس علماً بالأحاديث التي روتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأرسل الخليفة تعليمات مماثلة أيضاً للولاة الآخرين. وكلف العالم ابن شهاب الزهري بجمع الأحاديث المدونة. فكان يعمل ليلاً ونهاراً حتى قالت زوجته لو كان تزوج علي ثلاث نساء أخريات لكان أهون علي من ذلك. على الأقل كنت سأوقن أنه سيزورني مرة كل أربعة أيام.

لم يمهل القدر الإمام الزهري لإتمام عمله، فتوفي في المدينة عام 741. لكن من أتوا بعده قد حذوا حذوه ونهجوا نهجه وكتبوا أمهات الكتب في الحديث. وأشهرها كتب الحديث المشهورة بالكتب الستة ومنها صحيح البخاري وصحيح مسلم. وهذه الكتب تحوي الملايين من الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء من رووها. ثم ألف العلماء اللاحقون لهم آلاف الكتب في سير الرواة ومصطلحات الحديث. وهكذا نشأ علم الحديث.